Nov 24, 2007

لماذا تمرض نفوسنا ؟



المؤمن لا يعرف شيئا اسمه المرض النفسي، لأنه يعيش في حالة قبول و انسجام مع كل ما يحدث له من خير و شر . . فهو كراكب الطائرة الذي يشعر بثقة كاملة في قائدها و أنه لا يمكن أن يخطئ، لأن علمه بلا حدود، و مهاراته بلا حدود .. فهو سوف يقود الطائرة بكفاءة في جميع الظروف، و سوف يجتاز بها العواصف و الحر و البرد و الجليد و الضباب .. و هو من فرط ثقته ينام و ينعس في كرسيه في اطمئنان و هو لا يرتجف و لا يهتز إذا سقطت الطائرة في مطب هوائي، أو ترنحت في منعطف، أو مالت نحو جبل .. فهذه أمور كلها لها حكمة و قد حدثت بإرادة القائد و علمه و غايتها المزيد من الأمان. فكل شيء يجري بتدبير، و كل حدث يحدث بتقدير ، و ليس في الإمكان أبدع مما كان .. و هو لهذا يُسلّم نفسه تماما لقائده بلا مساءلة و بلا مجادلة، و يعطيه كل ثقته بلا تردد، و يتمدد في كرسيه قرير العين ساكن النفس في حالة كاملة من تمام التوكل. و هذا هو نفس إحساس المؤمن بربه، الذي يقود سفينة المقادير، و يدير مجريات الحوادث، و يقود الفلك الأعظم، و يسوق المجرات في مداراتها، و الشموس في مطالعها و مغاربها .. فكل ما يجري عليه من أمور مما لا طاقة له بها، هي في النهاية خير. إذا مرض و لم يفلح الطب في علاجه .. قال في نفسه .. هو خير .. و إذا احترقت زراعته من الجفاف و لم تنجح وسائله في تجنب الكارثة .. فهي خير.. و سوف يعوضه الله خيرا منها .. و إذا فشل في حبه .. قال في نفسه حب فاشل خير من زيجة فاشلة .. فإذا فشل زواجه .. قال في نفسه الحمد لله أخذتْ الشر و راحت .. و الوحدة خير لصاحبها من جليس السوء .. و إذا أفلست تجارته قال الحمد لله لعل الله قد علم أن الغنى سوف يفسدني ، و أن مكاسب الدنيا ستكون خسارة علي في الآخر .. و إذا مات له عزيز .. قال الحمد لله .. فالله أولى بنا من أنفسنا ، و هو الوحيد الذي يعلم متى تكون الزيادة في أعمارنا خيراً لنا، و متى تكون شراً علينا .. سبحانه لا يُسأل عما فعل.و شعاره دائما: (وعسى أن تكرهوا شيئا و هو خيرٌ لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شرٌ لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون). وهو دائماً مطمئن القلب، ساكن النفس، يرى بنور بصيرته أن الدنيا دار امتحان و بلاء، و أنها ممر لا مقر، و أنها ضيافة مؤقتة شرها زائل و خيرها زائل .. و أن الصابر فيها هو الكاسب و الشاكر هو الغالب. لا مدخل لوسواس على قلبه، و لا لهاجس على نفسه، لأن نفسه دائما مشغولة بذكر العظيم الرحيم الجليل و قلبه يهمس : الله .. الله .. مع كل نبضة، فلا يجد الشيطان محلاً و لا موطئ قدم و لا ركنا مظلماً في ذلك القلب يتسلل منه.و هو قلبٌ لا تحركه النوازل، و لا تزلزله الزلازل، لأنه في مقعد الصدق الذي لا تناله الأغيار.و كل الأمراض النفسية التي يتكلم عنها أطباء النفوس لها عنده أسماء أخرى:الكبت اسمه تعفف، و الحرمان رياضة، و الإحساس بالذنب تقوى، و الخوف (و هو خوف من الله وحده) عاصم من الزلل، و المعاناة طريق الحكمة، و الحزن معرفة،و الشهوات درجات سلم يصعد عليها بقمعها و يعلو عليها بكبحها إلى منازل الصفاء النفسي و القوة الروحية، و الأرق .. مدد من الله لمزيد من الذكر .. و الليلة التي لا ينام فيها نعمة تستدعي الشكر و ليست شكوى يبحث لها عن دواء منوم فقد صحا فيها إلى الفجر و قام للصلاة، و الندم مناسبة حميدة للرجوع إلى الحق و العودة إلى الله،و الآلام بأنواعها الجسدي منها و النفسي هي المعونة الإلهية التي يستعين بها على غواية الدنيا فيستوحش منها و يزهد فيها، و اليأس و الحقد و الحسد أمراض نفسية لا يعرفها و لا تخطر له على بال، و الغل و الثأر و الانتقام مشاعر تخطاها بالعفو و الصفح و المغفرة، و هو لا يغضب إلا لمظلوم ، و لا يعرف العنف إلا كبحاً لظالم.و المشاعر النفسية السائدة عنده هي المودة و الرحمة و الصبر و الشكر و الحلم و الرأفة و الوداعة و السماحة و القبول و الرضاتلك هي دولة المؤمن التي لا تعرف الأمراض النفسية و لا الطب النفسي ..و الأصنام المعبودة مثل المال و الجنس و الجاه و السلطان، تحطمتْ، و لم تعد قادرة على تفتيت المشاعر و تبديد الانتباه .. فاجتمعت النفس على ذاتها و توحدت همتها، و انقشع ضباب الرغبات، و صفت الرؤية، و هدأت الدوامة، و ساد الاطمئنان، و أصبح الإنسان أملك لنفسه و أقدر على قيادها، و تحول من عبدٍ لنفسه إلى حر بفضل الشعور بلا إله إلا الله .. و بأنه لا حاكم و لا مهيمن و لا مالك للملك إلا واحد، فتحرر من الخوف من كل حاكم و من أي كبي،ر بل إن الموت أصبح في نظره تحرراً و انطلاقاً و لقاء سعيد بالحبيب.اختلفت النفس و أصبحت غير قابلة للمرض .. و ارتفعت إلى هذه المنزلة بالإيمان و الطاعة و العبادة، فأصبح اختيارها هو ما يختاره الله، و هواها ما يحبه الله .. و ذابت الأنانية و الشخصانية في تلك النفس، فأصبحت أداة عاملة و يداً منفذة لإرادة ربها. و هذه النفس المؤمنة لا تعرف داء الاكتئاب، فهي على العكس، نفس متفائلة، تؤمن بأنه لا وجود للكرب مادام هناك رب .. و أن العدل في متناولنا مادام هناك عادل .. و أن باب الرجاء مفتوح على مصراعيه مادام المرتجى و القادر حياً لا يموت.و حزن هذه النفس حزن مضيء حافل بالرجاء، و هي في ذروة الألم و المأساة لا تكف عن حسن الظن بالله .. و لا يفارقها شعورها بالأمن ، لأنها تشعر بأن الله معها دائما، و أكثر ما يحزنها نقصها و عيبها و خطيئتها .. لا نقص الآخرين و عيوبهم .. و لكن نقصها لا يقعدها عن جهاد عيوبها .. فهيّ في جهاد مستمر، و في تسلق مستمر لشجرة خطاياها، لتخرج من مخروط الظل إلى النور المنتشر أعلى الشجرة لتأخذ منه الحياة لا من الطين الكثيف أسفل السلم.إنها في صراع وجودي و في حرب تطهير باطنية .. و لكنه صراع هادئ واثق لا يبدد اطمئنانها و لا يقتلع سكينتها لأنها تشعر بأنها تقاتل باطلها بقوة الله و ليس بقوتها وحدها.. و الإحساس بالمعية مع الله لا يفارقها، فهي في أمن دائم رغم هذا القتال المستمر لأشباح الهزيمة و لقوى العدمية بداخلها.. فهي ليست وحدها في حربها.ذلك هو الجهاد الأكبر الذي يشغل النفس عن التفاهات و الشكايات و الآلام الصغيرة و يحفظها من الانكفاء على ذاتها و الرثاء لنفسها و الاحتفاء بمواهبها.. فهيّ مشغولة عن نفسها بتجاوز نفسها و تخطي نفسها و العلو على ذاتها .. فهي في رحلة خروج مستمرة .. رحلة تخطي و صعود، و دستورها هو: (أن تقاوم أبدا ما تحب و تتحمل دائما ما تكره(و مشاعر هذه النفس منسابة مع الكون، متآلفة مع قوانينه، متوافقة مع سننه، متكيفة بسهولة مع المتغيرات حولها .. فيها سلاسة طبيعية و بساطة تلقائية .. تلتمس الصداقة مع كل شيء .. و مثالها الكامل هو النبي محمد صلى الله عليه و سلم حينما كان يحتضن جبل أحد و يقول : هذا جبل يحبنا و نحبه .. فالمحبة الشاملة هي أصل جميع مشاعرها .. إنها في صلح دائم مع الطبيعة و مع القدر و مع الله .. و الوحدة بالنسبة لهذه النفس ليست وحشة بل أنس .. و ليست خواء بل امتلاء .. و ليست فراغا بل انشغال .. و ليست صمتا .. بل حوار داخلي و استشراف نوراني .. و هي ليست وحدة، بل حضن آمن .. و عذابها الوحيد هو خطيئتها، و إحساسها بالبعد و الانفصال عن خالقها.. و هو عذاب يخفف منه الإيمان بأن الله عفو كريم تواب يحب عباده الأوابين المستغفرين .. و هيّ أقرب ما تكون إلى ربها و هي ساجدة ذائبة حبا و خشوعا .. يقول بعض الأولياء الصالحين : نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف، و لكن أنّى للملوك أن يعرفوها و هم غرقى الدنيا و سجناء ماديتها.إن السبيل إلى ميلاد تلك النفس و خروجها من شرنقتها الطينية هو الدين و الطاعة و المجاهدة، و لا يوجد سبيل آخر لميلادها .. فالعلم لا يلد إلا غرورا، و الفن لا يلد إلا تألُهاً .. و الدين وحده هو المحضن الذي تتكامل فيه النفس و تبلغ غايتها.و النفس المؤمنة نفس عاملة ناشطة في خدمة الآخرين و نجدتهم، لا يقطعها تأملها عن الشارع و السوق و زحام الأرزاق .. و العمل عندها عبادة .. و العرق و الكدح علاج و دواء و شفاء من الترف و أمراض الكسل و التبطل .. حياتها رحلة أشواق و مشوار علم و رسالة خدمة .. و العمل بابها إلى الصحة النفسية .. و منتهى أملها أن تظل قادرة على العمل حتى النفس الأخير و أن تموت و هي تغرس شجرة أو تبني جداراً أو توقد شمعة .. تلك النفس هي قارب نجاة، و هي في حفظ من أي مرض نفسي، و لا حاجة بها إلى طب هذه الأيام، فحياتها في ذاتها روشتة سعادة ..

بتصرف - المصدر: كتاب (عالم الأسرار) للدكتور مصطفى محمود

No comments: