Jan 25, 2008

لا تحصوها


لو أخَذَ أحدُنا وَرقةً وقلماً.. وقال: أحاوِلُ هذا اليومَ.. أن اُحصي نِعَمَ الله عَلَيَّ؛ حتى أعرفَها.. فأقدِرَها قَدرَها.. وعساني حينئذٍ أقدِرَ على شُكرِها، يُسَجِّلُ أولا.. نعمةَ الإسلامِ.. والإيمان.. والعقيدة الصحيحة.. وهو يرى العالَمَ يغرق في بِحارٍ من أوحالِ الكفر والإلحادِ والتخبُّط الأعمى والنظريات القاصرةِ المتقلِّبة ! فالحمد لله أن أتم نعمتَه علينا ورضي لنا الإسلام ديناً؛ فلولا فضلُه ونِعمتُه؛ لَكنَّا نخوضُ مع الخائضين
ثم يُسَجِّلُ نِعمةَ الاستقامة.. وأداء الفرائضِ.. والالتزام بأخلاق الإسلام وآداب التعامل.. وحب المساكين.. وإعانة الضعفاء؛ فإذا نعمة الاستقامة وحدَها تمثل مجموعةً من النِّعَم المتعدِّدة؛ أشبه بغُرَفِ الجنة
ثم يُسجِّلُ نِعمةَ المعرفة.. ولذةَ طلبِ العِلم.. ومُشاهدةَ العلماء.. ومُصاحبةَ الفضلاء الذين لا يشقى بهم الجليس! ثم التوفيق إلى أحسنِ العلوم، وهذا الاختيار لا يكون إلا بتوفيقِ الله؛ فكم من الناس يقضي عمره في طلب ما يضره ولا ينفعه
ثم نعمة أن تهتم بالقواعد والكليات؛ حتى لا تغرق في الفروعِ والجزئياتِ، ثم مُبارَكة هذا العِلم؛ حتى يَصِيرَ مَعرِفةً نافِعةً؛ تُهذب القلبَ والوِجدان، وتظهر ثَمراتُها على اللسانِ والأخلاق وتُصبح منهجاً للسلوك! فإذا بنِعمةِ العِلمِ نفسِها.. منظومةٌ من النِّعَم
ثم نعمة الصحة والعافية.. في البدن.. والسمع.. والبصر.. والعقل.. والنفس.. والسلوك! فهي كذلك نعمٌ كثيرةٌ
ثم نعمة الأمنِ والحفظِ والسترِ.. مِن شياطينِ الإنسِ.. والجنِّ.. ومِن التخبطِ في المواقِفِ.. والانحرافِ في المنهَج.. والسلامةِ من القلقِ والاضطرابِ.. والشعورِ بالطمأنِينة.. والسعادة.. والاستِقرار! وهذه أيضاً نِعَمٌ مُتعدِّدة
ثم نعمة الرِّزق.. مِن المالِ.. والعِيال.. بنين وبنات.. ومن الزوجةِ الصالحةِ المبارَكة التي ترعَى الزوج والأسرة.. ومن الحكمة في التصرُّف.. والسداد في القول.. والرشاد في السلوك. ثم نعمة العلاقات الطيبة مع الأفاضل.. واستشارتهم.. والتعلم منهم.. والتعاون معهم.. في خير الدين والدنيا
وهنا يتوقف عن الكتابة.. ويُدرك أنَّها نِعَمٌ عظيمةٌ.. جليلةٌ.. كثيرةٌ.. متنوِّعةٌ.. منها الظاهر، ومنها الباطن، كما قال الله عز وجل: (ألم تروا أنَّ اللهَ سخَّرَ لكم ما في السمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطِنةً). قال الطبري رحمه الله: يقول: (ظاهرة) على الألسن قولا، وعلى الأبدان عملاً... وباطنة في القلوب اعتقادا ومعرفة
فحِينَئذٍ يَتذكَّرُ قولَ الله جَلَّ جَلالُه: (وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها). فهذه النِّعَم التي أنعَمَ الله بها علينا لا نُحْصِيها عَدّاً ولا نعرفُ لها حَدّاً، كما قال القرطبِي رحمه الله: "(وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها) ولا تُطِيقُوا عَدَّها، ولا تقومُوا بِحَصْرِها؛ لِكَثْرَتِها: كالسَّمعِ والبَصرِ وتقويمِ الصُّوَر... إلى غير ذلك: مِن العافيةِ والرِّزقِ؛ وهذه النِّعَمُ مِن الله؛ فلم تُبَدِّلُون نِعمةَ الله بالكُفر؟ وهلا استَعَنْتُم بِها على الطاعة
وتأمَّلْ رَوعةَ التعبيرِ القرآني البديع: (لا تُحْصُوها)؛ ولم يَقُلْ: "لا تَشْكُرُوها" أو "لا تقدِرُوا على شُكْرِها"؛ فإنَّ إحْصاءَ النِّعَمِ مُتعَذِّرٌ؛ فكيف يُمكِنُ لِلعَبدِ أن يَقومَ بِشُكْرِ ما لا يُحْصِيه من النِّعَم؟! فقولُه تعالى: (وإن تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها) أي: تَضْبِطُوها؛ فَضْلاً أنْ تُطِيقُوا شُكْرَها (إنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ حيث يُنعِمُ عليكم مع تَقصِيرِكم وعِصْيانِكم ثم هذا الشُّكرُ نفسُه.. نِعمةٌ أخرى من نِعَمِ الله عليه؛ فكم من الناسِ يغفلُ ولا يكاد يَشكُرُ الله على نِعمَةٍ من نِعَمِه؟! قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذِكرُه: (وإنْ تَعُدُّوا) أيها الناس (نعمةَ الله) التي أنعَمَها عليكم؛ لا تُطيقُوا إحْصاءَ عَدَدِها والقِيامَ بِشُكْرِها إلا بِعَونِ الله لكم عليها... عن طلق بن حبيب قال: إنَّ حقَّ اللهِ أثقلُ مِن أنْ تقومَ به العِبادُ، وإنَّ نِعَمَ اللهِ أكثرُ مِن أنْ تُحْصِيَها العِبادُ؛ ولَكنْ أصْبِحُوا تَوابِين، وأمْسُوا توابين



إننا لا نعرفُ إلا طَرَفاً.. من نِعَمِ الله علينا؛ وهذا القليلُ.. الذي عرفناه؛ إنما كان بتوفيقِ الله لنا؛ ولولا توفِيقُه لكنا مِن الغافِلِين الجاهِلِين الذين يظنُّون النِّعَمَ من صُنعِ أيديهم.. ومن ثمراتِ نجاحِهم.. ومن حُسنِ تخطيطِهم
وإننا بعد مَعرفةِ بعضِ النِّعَمِ بتوفِيقِ الله.. لا نَقدِرُ على شُكْرِها؛ إلا بِتَوفِيقِ الله كذلك، واعتِباراً لهذا الضَّعفِ البشريِّ عن الشُّكرِ قال الله عزَّ وجَلَّ: (وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفورٌ رحيمٌ)، فهو يعلَم قُصُورَ العِبادِ وضَعْفَهم وعَجْزَهم؛ فلذلك يتداركهم بمغفرته ورحمته، كما قال الطبري رحمه الله: "(إنَّ الله لَغَفورٌ رَحِيمٌ)، يقول جَلَّ ثناؤه: إنَّ الله لَغَفورٌ لما كان مِنكم مِن تقصيرٍ في شُكْرِ بعضِ ذلك؛ إذا تُبْتُم وأنَبْتُم إلى طاعَتِه واتباعِ مَرْضاتِه (رحيمٌ) بكم أن يُعَذِّبَكم عليه بعد الإنابةِ إليه والتوبة". وقال ابنُ كثير رحمه الله: "نبَّهَهم على كَثرةِ نِعَمِه عليهم وإحْسانِه إليهم، فقال: (وإن تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفورٌ رَحِيم): أي يتجاوز عنكم؛ ولو طالَبَكم بِشُكْرِ جَمِيعِ نِعَمِه لَعَجِزْتُم عن القيامِ بذلك، ولو أمَرَكم به لضَعفتم وتَرَكتم؛ ولو عَذَّبَكم لَعَذَّبَكم وهو غير ظالمٍ لكم، ولكنه غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغفرُ الكثيرَ ويُجازي على اليسير



اللهم أعنّا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك
د. محمد عمر دوله

No comments: