هي صاحبة مال و جمال و دلال.. في أناملها الرقيقة المرصعة من خواتم الألماس و الزمرد ما يكفي لبناء جامعة. وعلى كتفيها معطف أنيق من فراء الفيزون النادر يكفي للإنفاق على مستشفى. و في " جراج البابا " ثلاث عربات مرسيدس أمد الله في عمره وهو لا يرد لها طلبا.. و كلما رفض لها عريسا زادها في أصابعها خاتما. وهي بعد أن امتلكت الدنيا لا تعرف ماذا تريد بالضبط. و هي و إن كانت لا تعرف ماذا تريد، فإنها تعرف تماما ماذا ترفض. وهي ترفض كل ما يطرق عليها الباب. حتى الطقس ترفضه.. فهو دائما حار أكثر من اللازم.. أو بارد أكثر من اللازم.. أو غائم أكثر من اللازم.. أو صحو أكثر من اللازم.. أو رطب أكثر من اللازم. كما أن الطعام دسم أكثر من اللازم.. أو مملح أكثر من اللازم.. أو مسكّر أكثر من اللازم.. أو ساخن أكثر من اللازم.. أو بارد أكثر من اللازم. و لابد أن ترى في كل شيء عيبا، نوع من الدلع و سوء التربية، عقدة الترف و الوفرة. و أف من هذا.. و أف من ذاك.. بردانة.. حرّانة.. متضايقة.. قلقانة.. زهقانة.. يرن تليفونها كل ثلاث دقائق، تبكي بلا سبب، من الضجر أحيانا.. أو من عبء حرية لا تعرف فيما تنفقها و لا كيف تنفقها. أو من أثقال ثروة لا تعرف كيف تبددها. أو من وطأة زمن لا معقول يجرجر وراءه العقم و اللاجدوى.. و العبث الفارغ. رأيتها تدور كالفراشة حول غرفة نوم في معرض موبيليا.. و تحملق في الأثاث المترف بعيون نائمة.. على السرير.. بطاقة بثمن 26 ألف جنيه. و من خلال أهدابها المطلية بالماسكارا تتأمل وسائد ريش النعام و الدولاب المكسو بالشاموا و الأزرار الإلكترونية في متناول اليد التي تطفئ و تدير و تغير قنوات التليفزيون المثبت في أقصى السرير، و تشغل الستريو و البيك آب و الكاسيت. و سمعتها تمط شفتيها و تهمس في نبرة لا مبالية.. موش بطال. لا شك أنها سوف تحدّث صاحبها في التليفون بعد دقائق في شأن هذه الغرفة. ولا شك بعد ذلك أنها سوف تنسى الموضوع، ثم إنها لن تُفاجأ كثيرا حينما تطرق بابها عربة الأثاث تحمل إليها غرفة النوم الأنيقة، و لا شك أنها سوف تتمدد عليها كقطة.. و لا شك أنها سوف تتثاءب في ملل بعد دقائق.. ثم ما تلبث أن تفقد الشعور بجمالها و طرافتها. فإنها كالعادة.. كل شيء تملكه ما تلبث أن تزهده، ثم يعود كابوس الملل و الضجر.. و الزمن الثقيل الذي يجرجر قطار اللاجدوى يضغط على أعصابها
لا تحتقروها يا سادة.. و لكن أشفقوا عليها.. فإن الله لم يحتقر شيئا حين خلقه، و لو أنه احتقر شأنها لما خلقها من البداية.. و لكن كل ما في الأمر.. أنها امرأة مدللة لم تجد الأب الذي يؤدبها، و لا الأم التي تنهرها ،و لا الدنيا التي تقهرها.. و لكن الله لا يهمل أحدا.. و قد كتب على نفسه في أزله الرحمة للجميع. و قال عن نفسه أنه الرب لا رب سواه.. و قد اقتضت رحمته أن يقسو أحيانا على بعض خلقه ليصلحهم.. فإنه لا يرضى أن تكون لنا عيون و لا نبصر و تكون لنا آذان و لا نسمع، و قد شق اللحم ليفتح عيون الأجنة في الأرحام، كما شق الرؤوس ليفتح مجاري الآذان.. و قد شاء ربنا عنايةً منه بهذه المرأة أن يرحمها. فصحت الجميلة ذات صباح لتكتشف أنها مسلوبة نعمة البصر. انطبقت الظلمة على عينيها تماما فلم تعد تبصر شيئا. وصرخت و بكت و ارتعدت رعبا، و اجتمع على رأس فراشها طب الأمريكان و الإنجليز و الفرنسيين و الأسبان. وتداول علماء الشرق و الغرب و انفضوا و هم يقلبون الأكف يأسا ًو عجزاً. و لا شفاء.. و لا حل.. و لا أمل في حل.. و في الظلمة المطبقة المطلقة.. كانت تتحسس وجه حبيبها و تبكي في حرقة و تهمس. هل تصدق أني لم أرى وجهك.. حينما كانت لي عينان و حينما كان لي بصر لم أكن أراك، لم أكن أرى سوى رغباتي، لم أكن أشعر إلا بنفسي، لم أكن أرى أحدا.. كان العالم كله مجموعة من المرايا لا أرى فيها إلا وجهي أنا.. و جمالي أنا.. و رغباتي أنا.. اليوم فقط أحاول أن أستشف ملامحك بأناملي، و أحاول أن أتعرف عليك.. و أحاول أن أقترب منك. يا حبيبي كم أتمنى أن أراك.. و أن أعاشر وجهك بعيني. و بكت و غسلت يديه بدموعها. صدّقوها يا سادة.. فهذه أول مرة تطلب شيئا بحق و تتمنى شيئا بحق.. و تشعر على وجه اليقين أن هناك شيئا يسعدها.. صدّقوها... و اسألوا لها الشفاء. فاليوم وُلدت إنسانيتها.. بفعل من أفعال الرحمة الإلهية.. و بسر من أسرار الله الذي يخفي رحمته في عذابه
_________________________
من كتاب " أناشيد الإثم والبراءة " للدكتور مصطفى محمود
No comments:
Post a Comment