ما أروعَ الآياتِ.. حينما تُشْرِقُ في حَنايا الرُّوحِ؛ فتُورِقُ وتستريح.. وما أجملَ الكلماتِ حِينَما تُزْهِرُ في الصُّدُورِ، وتُحلِّقُ في أفئدةِ الناسِ مثلَ أسرابِ الطيور ! تساءلتُ.. وأنا أقرأُ سورةَ العنكبوت، وقد استَوْقَفَتْنِي آيةٌ ظَلَلْتُ أُرَدِّدُها.. ولا يَمَلُّ اللِّسانُ من استعادتِها، بل يشعر القلبُ كلَّ مَرَّةٍ برَوْعَتِها.. بَلْ هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العلم ، الآياتُ هي الآياتُ.. ولكنَّها في السُّطُورِ كَلِماتٌ.. وفي الصُّدُورِ نَبْضٌ وحَرَكَةٌ وسَعْيٌ إلى تغيِيرِ أنْماطِ السُّلُوكِ وِفْقَ هذه الكَلِمات! وحينما تَتَغَلْغَلُ الآياتُ في القُلوبِ؛ تُثْمِرُ أحسنَ الثمارِ، وأما إذا ما بَقِيَت هذه الآياتُ حبيسةَ السُّطُور؛ فسيظلُّ القلبُ على الدَّوامِ قَفْراً مِن القِفار
إنَّ كثيراً مِن الناسِ مِن حَوْلِنا.. يقرؤون الآياتِ.. ويحفظُون الأمثالَ.. ويُنْشِدون الأشعار؛ ولكنَّ قليلاً مِنْ هؤلاءِ.. مَنْ يُدْرِك كَوامنَ الرَّوعةِ ويغوصُ على المعاني والأسرار، كما روى البخاري عن عبدِ الله بن شداد قالَ: " سمعتُ نَشِيجَ عمر وأنا في آخرِ الصُّفوفِ يقرأ: إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى الله . تساءلتُ.. كمْ بين الكلماتِ التي تُغرَسُ في الصُّدورِ، والكلماتِ التي تُحبَسُ في السُّطورِ؛ فلا ترى النور؟! وما فائدةُ الأفكارِ مهما كانت جميلةً وبرّاقة؛ إذا لم تتحوَّلْ سُلوكاً وتتمثَّلْ مُعامَلَةً وأخلاقا. إنَّ الكلِماتِ في السطورِ.. بحوثٌ، ودروسٌ، ومواعِظُ نظريّةٌ.. وأما الآياتُ التي في الصدورِ؛ فلها في واقعِ الناسِ ثمراتٌ عمليّةٌ؛ فهي بُرهانٌ عقليٌّ، وذَوقٌ وِجدانيٌّ، ومعرفةٌ يقينيّةٌ
هذه عُيُونُ الناسِ.. تجري كلَّ حِينٍ بين الكَلِماتِ، وتُطالِعُ السُّطُورَ، وتُقلِّبُ الصفحاتِ؛ ولكنْ.. مَن يُدْرِكُ حَلاوةَ العباراتِ، ويَجْنِي ثَمَرَ الكلماتِ؟ ويقطفُ زَهرَ المفرداتِ؟ . إنَّ الكلماتِ الحبيسةَ في السُّطورِ.. مهما كانت رائعةً وبديعةً؛ لا تتحوَّلُ إلى معرفةٍ وإدراكٍ ونُورٍ؛ إلا إذا صارتْ آياتٍ بيِّناتٍ في الصُّدورِ! وصدقَ الله العظيم حين قال عن كتابِهِ : بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العِلم . وكثيرٌ مِن الناسُ تسْحرُهم روعةُ الكلماتِ ببلاغتِها وفصاحتِها.. وتأسرُهم سلاسةُ التعابيرِ ورشاقتُها، ورِقَّةُ ألفاظِها وعُذوبتُها.. ولكنّها تحبسُهم عن مُلاحظةِ جَوهرِ الجمال؛ حين يتمثلُ في ميلادِ الإنسانِ والحياةِ من رَحِمِ الكلمات! كما قال ربُّ العالمين: هو الذي بعث في الأميِّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين
كَمْ مِن الناسِ.. ذاقَ لَذَّةَ غَرْسِ الكَلِماتِ في قُلوبِ الآخِرين؛ فأينعتْ حياتُهم القاحِلةُ وأشرقتْ بأحلى السُّنْبُلات؟! مَن عَرَفَ حلاوةَ رَسْمِ السَّعادةِ بالعِباراتِ الـمُثْمِرَةِ.. التي تنبتُ في سُويداءِ القلوب.. مثل النَّخْلِ الباسِقات (لها طلعٌ نَضِيد)؟
إنَّ القلوبَ وحدَها هي التي تتعامل مع الكلمات: إدراكاً ووعياً؛ ولذلك لا تُلقي الأُذنُ سمعاً، ولا تَذْرِفُ العينُ دَمعاً؛ إلا إذا أدركَ القلبُ روعةَ القرآنِ وخالَطَتْهُ بشاشةُ الإيمان! فحينئذٍ تصِيرُ الكلماتُ عِلماً وتُثِيرُ فِقهاً وذوقاً، وتَسِيرُ بين الناسِ معرفةً وفهماً؛ وكذلك الإيمانُ حينَ تُخالِطُ بشاشتُه القلوب
أينَ نحن من ثَمَراتُ الآياتِ؟ وما فائدةُ ما نتلُو ونحفظُ.. على قلوبِنا وعُقولِنا ومنهجِنا في الحياةِ.. إذا لم تتحوَّلْ إلى عِبَرٍ وعِظات؟
إنَّما الآياتُ لأهلِها.. الذين أثْنَى الله عزَّ وجَلَّ عليهم بأنهم قليلاً مِنَ الليلِ ما يَهْجَعُون وبالأسْحارِ هُمْ يستغْفِرُون ! فهي تُوقِظُهم بالأسْحارِ وتُعمِّرُ قلوبَهم بالنَّهار، كما روى ابنُ عمر عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: " لا حسدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ؛ فهو يقومُ به آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً؛ فهو يُنْفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهار" وأمَّا الذين لم يَقُومُوا بالآياتِ لَيْلاً.. ولَمْ يَصْحَبُوها نَهارا؛ فلَيْسُوا مِن أهْلِها، بلْ هُمْ أبْعَدُ النَّاسِ عَنْها؛ لأنَّهم وَرِثُوا الكِتابَ ودَرَسوه؛ ولَكِنَّهُمْ لمْ يَتَكَيَّفُوا به، ولم تتأثَّرْ بهِ قُلوبُهم... شأنَ العقيدةِ حين تتحوَّل إلى ثقافةٍ تُدْرَسُ وعِلْمٍ يُحْفَظُ... هُمْ دَرَسُوا الكتابَ وعَرَفُوا ما فِيهِ، بلى! ولكنَّ الدِّراسةَ لا تُجْدِي ما لم تُخالِطْ القُلُوب ؛ وكَمْ مِن دارِسِينَ للدِّينِ وقُلوبُهم عنهُ بعيدة ؟...وهل آفةُ الدِّينِ إلا الذين يَدْرُسُونَهُ دِراسةً ولا يأخُذُونَهُ عَقيدةً؟
د. محمد عمر دوله
No comments:
Post a Comment