Jan 7, 2008

الإنسان .. ذلك اللغز




عجيبٌ أمر هذا الإنسان

رقيقٌ، حنونٌ، عطوفٌ، رؤوفٌ جداً.. في أمريكا يتوقف المرور لأن قطة خطََر لها أن تتمخطر ببطء عبر الطريق.. و يتجمع الناس حول كلب مكسور الساق وقع من الدور السابع.. و تتسابق البلاغات إلى بوليس النجدة وإلى جمعية الرأفة بالحيوان و إلى جمعية الكلاب الضالة، ويأتي طابور من العربات، و يتحرك الموكب حاملا الكلب الجريح إلى مستشفى الكلاب، و يظهر النبأ في الصفحة الأولى من جرائد الإقليم، و يتقاطر الزوار على الكلب الراقد في جبيرة من الجبس، و ترفع جمعية الرأفة بالحيوان قضية على صاحب الكلب، و يترافع محامون و وكلاء نيابة، و يقرر القاضي غرامة كذا ألف دولار على الجاني المجرم الذي أهمل رعاية كلبه


هذا الإنسان الرقيق الحنون العطوف الذي تحرك وجدانه و تحركت صحافته لكلب جريح.. هو نفسه وهو عينه الذي يلقي قنبلة ذرية على هيروشيما و ناجازاكي.. يقتل فيها و يجرح و يشوه سبعة ملايين ضحية آدمية بشرية.. ما يزال بعضها يجرجر حياة بائسة مفعمة بآلام سرطان العظام والمثانة والكلة والجلد.. بينما هو الإنسان القاتل المحترف ما يزال مستمراً في حرفته الرهيبة، و قد تطورت صناعة الموت على يديه من قنابل ذرية إلى قنابل هيدروجينية إلى قنابل نيوترونية إلى قنابل ذرية نظيفة.. و تأملوا معي كلمة (( نظيفة )) أي تقتل قتلا نظيفاً دون أن تترك مخلفات إشعاعية. و مصنع الموت أو البنتاجون ينفق على صناعة الموت أضعاف أضعاف ما ينفق في مشاريع التنمية، وأضعاف أضعاف ما ينفق على الحياة و العلاج و البناء و التعمير


لا تسرعوا و تتهموا هذا الإنسان في عقله.. فهذا الإنسان لا يمكن اتهامه بنقصان العقل؛ فهو قد عبر الفضاء، ومشى على القمر، وأرسل سفناً إلى المريخ و الزهرة و المشتري، وأرسل أقماراً صناعية إلى الشمس.. وهو قد ابتكر أجهزة يتسمّع بها إلى همس الأمواج على أطراف المجرّة.. وهو صاحب تاريخ حافل بالفكر والفلسفة من سقراط إلى برتراند رسل، فهو إذن ليس ناقص العقل!.. إذن كيف نفهمه، و هو ينتقل من النقيض إلى النقيض في لحظة.. وهو يتحول من الحنان إلى الوحشية، ومن العقل إلى الجنون، ومن الشهامة إلى الغدر، ومن العبقرية إلى الحمق..؟ من هو ذلك الإنسان اللغز؟.. الزوجة التي تخون زوجها القوي المكتمل مع رجل ضعيف عاجز جنسياً.. والرجل الذي يمزّق زوجته بسكين و يقول باكيا.. قتلتها لأني أحبها.. والأوروبي المتمدن تأتيه المدنية بالعلم و وسائل الترف والراحة والنظافة والعناية الطبية والحياة الحافلة بالمشوقات والمشهيات والسياحات الممتعة بطول الأرض وعرضها فيقابل هذه النعمة بالعكوف على المخدرات والإرهاب والعنف والانتحار.. ومريض القُرحة يشرب السجائر و في التدخين هلاكه.. والطبيب العليم الخبير يشكو الكبد و يشرب الخمر و فيها دماره.. هو ليس نقص علم و لا نقص عقل، فهو طبيب يعرف ما هي الخمر و ماذا تفعل في البدن.. و تراه في عيادته ينصح مرضاه بعدم تعاطي الخمور.. ثم تراه يشربها في بيته، و الكثرة على هذه الحال


الغالبية بهذه الصورة من التناقض والتقلب وعدم الاتزان واضطراب المزاج واضطراب الأفعال والتباين بين الأقوال و الأعمال.. والخلاف بين الظواهر و البواطن والمفارقة بين السر و العلن والتلوّن والتغيّر والتبدّل.. والأقلية القليلة.. و ربما أقل من القليل.. هم أهل الكمال.. الأطهار في السر و العلن.. الأبرار يداً و قلباً و ضميراً.. أهل الثبات الذين لا يتغيرون، وإن تغيرت حولهم الدنيا.. ولا يتبدلون ولو أغرتهم الغوايات، وجاذبتهم المغريات. الواحد منهم حضارة، لو عثرت عليه في الأدغال و بين البدائيين فهو حضارة، وهو قد سبق الذين مشوا على القمر.. فهو صاحب المشوار الأطول والأشق، فهو قاهر نفسه.. وهو مؤشر التقدم الحقيقي.. بين الكثرة الكثيرة التي تفعل ما لا تقول، و تقول ما لا تفعل، وهو الواحد الفرد المميز الذي له سحنة نفسية بين أغلبية غالبة - هي على ما قلنا من الاضطراب - ليس لها سحنة و لا وجه.. و إنما هي تتقلب مع الأحوال و الأوقات و المصالح، و تتبدل مع اللحظات، و تنتقل من النقيض إلى النقيض، و من الموقف إلى ضدّه. و هؤلاء هم أهل الهوى.. و أغلب الناس أهل الهوى.. ولا يقر لأهل الهوى قرار، لأن الهوى لا يقر له قرار.. وهم مؤشر تخلف وإن لبسوا الحرير، و تقنعوا بالشهادات، و تفاخروا بالتكنولوجيا و الاختراعات


فالسؤال بالنسبة للإنسان ليس ماذا جمع من مال، و لا ماذا حصّل من علم، و لا ماذا شيّد، و لا ماذا اخترع.. و لكن ماذا صنع بنفسه أولا.. ذلك هو الإنجاز الأول.. و هو الأساس الذي سوف يبني عليه كل ما يأتي بعده.. وهو الأساس الذي يكون به تقييم كل شيء.. وهو ما نسميه بالأخلاق. يقول الله تعالى لمحمد عليه الصلاة و السلام في القرآن:(وإنك لعلى خلقٍ عظيم)، لم يقل له (( و إنك لعلى علم عظيم )). فقد رأينا العلم في أمريكا و أوروبا و روسيا و ماذا يصنع بدون خلق.. ورأينا أن الصعود الصعب هو أن تصعد على نفسك و تملك ناصيتها و ليس أن تصعد إلى القمر و تمشي عليه. و لهذا تحدّث القرآن عن المؤشر الحقيقي والأزلي للعظمة الإنسانية، وهو العظمة الخُلقية.. أما الأمجاد الأخرى فهي أمجاد قابلة للتقليد، ألم تقلد اليابان التكنولوجية الأمريكية في سنوات قليلة و تتفوق عليها و تزاحمها في جميع الأسواق. فمن استطاع أن يقلد النبي في كمالاته الخُلقية.. و من استطاع أن يفوقه..؟؟ ذلك هو المعراج المستحيل على عامة الناس و جماهيرهم.. لا يصعده إلا نبي.. و لا يقوى على السير فيه إلا أفراد هم الصدّيقون و الشهداء و الأبرار و الأولياء.. وهم معدودون في كل أمة وفي كل عصر، بهم تقوم أركان الدنيا، و يحفظ الله ببركتهم الأرض، وبانقطاعهم.. يهدم الله عمارة الكون.. و يقيم القيامة.. حينما لا تبقى إلا حثالة لا تستحق أن تطلع عليها شمس



__________________________

من كتاب "هل هو عصر الجنون" للدكتور مصطفى محمود

No comments: