لكل شيء آفة من جنسه.. حتى الحديد سطا عليه المبرد.. الله خلق لكل شيء آفته التي تعتدي عليه.. خلق القطن وخلق دودة القطن، خلق النبات وخلق الجراد، خلق الأسنان و خلق السوس، خلق العين وخلق الرمد، خلق الأنف وخلق الزكام، خلق الثمرة وخلق العفن، خلق الإنسان وخلق معه جيشاً من الأعداء لاغتياله: من قمل، وبق، وبراغيث، وبعوض، وديدان، وبلهارسيا، وميكروبات، وسل، وجذام، وتيفود، وكوليرا، وقراع، وصديد.. وخلق الحياة وخلق الحر و البرد، والصقيع و رياح السموم.. لم يرد بالدنيا أن تكون دار سلام.. وإنما دار حرب وصراع وبلاء وشد وجذب وكر وفر.. لأنه علم بحكمته أن حياتنا الدنيوية إذا أخلدت إلى الراحة و الأمن و الدعة و السلام ترهلت وضعفت وانقرضت. وعالم الفسيولوجيا يقول لك إن سم الميكروب يحفز النسيج إلى الاحتشاد.. كما تدفع لسعة البرد الدم إلى الشرايين
إن العدوان المستمر الذي جعلته الطبيعة شريعتها في الأرض أراده الله لمخلوقاته تحدياً مستمراً.. ليشحذ كل مخلوق وسائله و يبدع ويبتكر ويحتشد و يخرج أحسن ما يختزن من طاقات، و يكون دائماً على أكمل الصور الممكنة، وبدون هذا التناقض والصراع والكفاح كان مصير الحياة إلى ضمور وتخاذل وتكاسل ثم انقراض تدريجي.. وهذا ما نشاهده في الأفراد والأمم حينما تخلد إلى الراحة والترف ويطول بها حبل الأمن والسلام والدعة. وكما خلق لنا الله المرض خلق لنا الدواء في عشب ينمو تحت أقدامنا.. وفي شراب في الينابيع التي تتفجر حولنا في كل مكان.. وفي العناصر الكثيرة تحت الأرض وفوقها.. وأمدنا بالعقل الذي يبحث و ينقب، وللحكمة ذاتها ألقى الله وسط الدول العربية المتخاذلة المترهلة بعدو شرس هو إسرائيل.. ومكّن هذا الجسم الغريب ليكون حافزاً إلى اليقظة والاحتشاد. إسرائيل هي الميكروب، هي التحدي القائم في الجسم العربي ليثبت حيويته، ويشحذ طاقاته، ويهب من نومه الطويل، وينتفض من تخلفه. وبرغم كل ظواهر اليأس فأنا متفائل شديد الثقة بالمستقبل.. فالسنن الكونية، والقوانين الإلهية، تعمل عملها في الكيان العربي. وما نعيش فيه من كارثة، أراها على العكس مظهراً من مظاهر القانون الأزلي لتصحيح الأشياء.. فبهذا التحدي المستمر وبهذا الخنجر المسموم المغروس في أحشائنا سوف نحتشد في جسم موّحد طال بنا الزمن أو قصر.. لنواجه محنة أن نكون أو لا نكون.. و ما نعيش فيه الآن هي أيام الحمى التي تسبق الشفاء
إن خلافتنا الداخلية وانقسامتنا الداخلية أشبه بالصديد الذي يتخلف في الجراح من جرّاء التهاب النسيج بالسم الميكروبي والأجسام المضادة التي يفرزها.. وهي مرحلة يليها تدفق الدم من النسيج المحتقن ليغسل كل شيء ثم يعقب ذلك الالتئام والشفاء. وهي أشياء نتعلمها مما يجري على النسيج الحي حين يتكاثر عليه الأعداء، وهي قوانين أزلية وضعها الله للخلية والجسم الحي والأمة والإمبراطورية.. ولا يستطيع أن يشذ عنها مخلوق. إن الذي يجعل من واقعنا الحالي سبباً لليأس لا يفهم الدنيا ولا يفهم التاريخ. لقد تقاتلت الأمة الأمريكية قبل أن تتوحد في حرب شرسة بين شمالها وجنوبها.. وكذلك الصين.. لم يقل أحد إنها انتهت، أو إنها كتبت وثيقة فنائها.. بل العكس هو ما حدث.. فقد كتبت بهذا الدم ميلادها.. وفي الحساب الأزلي للأرباح والخسائر.. وفي سجل التاريخ.. لا تضيع نقطة دم واحدة.. ولا تهدر ضحية.. و إنما لكل شيء دوره في صياغة النصر النهائي.. والنصر دائماً للحق و الخير
______________________
من كتاب " الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود
No comments:
Post a Comment