Jan 12, 2008

أفيون هذا الزمان


تتبارى أجهزة التليفزيون والإذاعة والسينما وصفحات المجلات والجرائد على شيء واحد خطيرهو سرقة الإنسان من نفسه، شد عينيه و أذنيه وأعصابه و أحشائه ليجلس متسمراً أمام التليفزيون أو الراديو أو السينما، وقد تخدرت أعصابه تماما، كأنه أخذ بنجاً كلياً وراح يسبح بعينيه مع المسلسلة، ويكدّ ذهنه متسائلاً : من القاتل؟ ومن الهارب؟. وبين قاهر الجواسيس، وريتشارد كامبل، و-الأفيشات- العارية في المجلات، والعناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم و الليلة، ويعود الواحد إلى فراشه وهو في حالة خواء وفراغ وتوتر داخلي مجهول السبب، وحزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط. والحقيقة أنه لم يعش بالفعل، وأنّ حق الحياة سُلب منه، وأنه سُلب من نفسه، و أُخرج عنوة وألقيّ به في مغامرات عجيبة مضحكة، وتساؤلات لا تهمّه على الإطلاق. من الذي قتل شهيرة هانم! ولماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية (( الذئب في فراشي )) ؟ وأين الكنز في مسلسلة عبيد الذهب ؟ وأين الحقيقة في رواية "ارحمني يا حبيبي"، ويمر اليوم تلو اليوم.. وتظل هذه الأجهزة تقوم بما يشبه -العادة السريّة- للمتفرجين، وتغرقهم في نشوات مفتعلة إلى درجة التعب، ثم تلقي بهم إلى الفراش آخر الليل منهوكي الأحاسيس، لا يدري الواحد منهم ماذا به بالضبط.. لماذا يشعر بأنه مجوف تماماً ؟ وأنه لا يعيش أبداً، و أنه لا يقول ما يريد أن يقوله، ولا يسمع ما يريد أن يسمعه، وإنما هو يربط في أرجوحة تظل تدور به دوراناً محموماً حتى يُغمى عليه تماماً وينسى ما كان يُفكر فيه، وما كان يُريد أن يقوله، وما كان يُريد أن يسمعه، وما كان يملأ منه القلب والعقل.. ويتحول إلى -حيوان- أعجم مربوط العقل والإحساس إلى هذه الأجهزة الغريبة التي تفتعل له حياة كلها كذب في كذب


وهذه الظاهرة ظاهرة عالمية، بل هي من سمات هذا العصر المادي -الميكانيكي- الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي، وهو نوع من القتل الجميل الرائع.. تخنق فيه العقول بحبال من حرير، وتخنق الخيالات بالعطور الفوّاحة، وتخاط فيه الشفاه بجدائل من شعر بريجيت باردو، وأرسولا انرس. وكلما زادت مقاومة المتفرج لهذا الأفيون زاد المخرجون من المساحة العارية المسموح بها من صدر الممثلة ومن ساقيها، و سكبوا كمية من الدم أكثر في رواياتهم، وكمية من البترول المشتعل أكثر على أعصاب الناس. وحينما تنفجر الأعصاب في ظواهر متشابهة مثل ظاهرة الخنافس والهيبز، ورقصات الجرك المجنونة، وأدب الساخطين والغاضبين واللاعنين، فهي دائما نتائج ذلك البخار المضغوط في جماهير الشباب التي قضيّ عليها بأن تعيش أسيرة عنكبوت الإعلام، والأخطبوط ذي الألف اسم



الإذاعة و السينما و الجرائد.. ذلك السجن ذي القضبان الجميلة من الأذرع العارية في المجلات والروايات لتعيش معزولة عن معركة المصير وعن الإدلاء برأي في مأساة الحياة والموت التي تجري على مساحة العالم كل يوم. وحينما يدور الكلام عن عقار الهلوسة والماريجوانا، والحشيش، والهيروين، والكوكايين، والعصابات التي تروجه، فإنهم ينسون دائما مخدرات أكثر انتشارا و أخطر أثراً... مخدرات تدخل كل بيت من تحت عقب الباب، وتقتحم على كل واحد غرفة نومه، تزاحم إفطار الصباح إلى معدته وفنجان الشاي إلى شفتيه.. تلك هي وسائل الإعلام التي تكاتفت فيما بينها – بتعاقد غير مكتوب – على أن تقتل الناس بقتل وقتهم، و تميتهم بالضحك والإثارة والنكتة البذيئة، وتلك الكلمة الغامضة اللذيذة التي اسمها "التسلية". وتحت شعار قتل الوقت يٌُقتل الإنسان، ويُراق دم اللحظات، و يُسفك العمر، فما العمر في النهاية إلا وقت محدود.. وما الإنسان إلا فسحة زمنية عابرة إذا قُتلت لم يبقى من الإنسان أي شيء. و مسئولية كل مفكر وكاتب أن يخرج على الخط، ويتمرد على هذا الإتفاق غير المكتوب بقتل الوقت في محاولة شريفة لإحياء وقت الناس بتثقيفهم وتعليمهم والبحث عن الحق، لا عن التسلية وإشراك الناس في مأساة مصيرهم، وإعادة كل واحد إلى نفسه وقد ازداد ثراءً ووعياً لا سلبه من نفسه وسرقته من حياته، ورفع شعارات الحرية لتفسح الروح الإنسانية عن مكنونها


على وسائل الإعلام أن تتحول من أفيون إلى منبّه يفتح العيون والأحاسيس على الحقيقة، ويدعو كل قارئ إلى وليمة الرأي، ويدعو كل عقل معطل إلى مائدة الفكر، فتكون كرحلة تحشد الحماس عند كل محطة تقف عندها لا كخيمة للغاز المسيل الدموع مضروبة على الناس، أو قنابل دخان تُطلق للتعمية. إنّ حضارة الإنسان وتاريخه ومستقبله رهن كلمة صدق وصحيفة صدق وشعار صدق. فبالحق نعيش، وليس بالخبز وحده أبداً
وإذا كان السؤال المطروح الآن: ما هي صحافة اليوم؟ فهأنذا أقول لكم الجواب: أن نقول الحق.. وأن نقول الجد.. وأن نقول المفيد والنافع والصحيح.. وأن نحيي وقت القارئ لا أن نقتل وقته




_______________________


من كتاب "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود

No comments: