Jan 21, 2008

الأصنام



نحن نقول إننا في عصر العلم.. وإننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها وأوثانها.. ولم يعد هناك من يعبد اللات والعزى و هُبل ولا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة. ولكني أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد ونركع ونحرق البخور و نرتل التسابيح والابتهالات في كل لحظة لأصنامٍ لا حصر لها. نحن في الجاهلية بعينها ولو تكلمنا بلغة الإلكترونات.. ولو مشينا على تراب القمر.. إنما اختلفت أسماء الأصنام.. واختلفت صورها ونوعياتها.. وتسترت تحت ثياب الألفة.. و لكنها هي الأصنام بعينها. ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم؟.. وهل هو إلاّ صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجى. لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروّج بها أي بضاعة.. صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر، وإعلانات الخمور، والصابون، والبيرة، والكاميرات، والساعات، و الحراير، والأقمشة، حتى أدوية الزكام، وشفرات الحلاقة، ومعاجين الأسنان. وهي عامل مشترك في كل أفيشات السينما و المسرح.. وهي على أغلفة المجلات، وعلى كروت المعايدة، وفي جميع -الفاترينات- بمناسبة وبدون مناسبة، وهي على علب الشيكولاته، وعلب البونبون، وزجاجات العطر، ونجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات.. ونفاجأ بها في إعلان سيارات تفتح لنا الباب، وفي طائرات س م ع تقدم لنا طبقا من الجاتوه مع ابتسامة.. وإلى جانب مطحنة بن تقدم لنا فنجانا من القهوة.. بل وفي إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبني بيتاً جديداً.. وهي دائما عارية أو نصف عارية أو -بالمايوه- ، وكأنما لا وسيلة لجذب الانتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد.. ولا طريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن. إنه الذكر والابتهال والتسبيح العصري، تُسفح فيه الدموع، وتًنشد الأشعار، وتُرتل المزامير و الأغاني والرباعيات والسبعايات، وتُؤلف المسلسلات والحلقات.. كل حلقة تشحذ الذهن وتثير شهية المستمع و المتفرج


أما الصنم الثاني أو لعله المعبد أو الكاتدرائية العظمى أو جبل الأولمب الذي يتجمع فيه حشد الآلهة العصرية، فهو فاترينة البضائع الإستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة الريكوردر والتليفيزيون و الساعة الذهبية والسوار الماسي. والابن يقتل أباه، والأخ يسرق أخاه، والموظف يختلس، والصانع يغش، والصراف يزور، والمزيف يزيف في سبيل هذه الفاترينة الوهاجة.. فاترينة الأحلام.. الكل يتهجدون ويسهرون الليل يصلون لها.. و كل شيء يفنى ما عدا وجهها ذي الجلال و الإكرام المضاء دائما بالنيون والفلورسنت في حي المال والتجارة من كل مدينة


أما الصنم الثالث فهو الهيكل.. هيكل الفكرة المجردة والنظرية والمذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب.. لا يرى حقاً إلا ما تقوله بنود نظريته، ولا يرى صدقاً إلا ما يأمر به مذهبه، فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يُحرق حياً.. وهو يعيش بفكر مقلوب ومنطق معكوس، فالإنسان عنده يجب أن يُوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان. وهذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد، وعابد قصاصات الورق، والشعارات الطنانة الكاذبة.. وهو أحد مجانين هذا الزمان


و صنم آخر شائع هو الدكتاتور والحاكم المطلق والطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة ومن حوله بلاط الهتافين و المصفقين وحملة المباخر والمجامر والمسبحين بالحمد والمنافقين والكذابين وقارعي الطبول ونافخي الأبواق.. تزفه الأناشيد والأهازيج في كل مكان.. ويلقن الاطفال في مدارسهم.. إنه الرزاق والمنقذ والمعين الذي يطعمهم من جوع و يؤمنهم من خوف ويكسوهم من عري، وأن عليهم أن يتوجهوا إليه بالتسبيح والتحميد كل صباح.. وأن عليهم أن يحفظوا كلماته و يعوا وصاياه و يلتمسوا رضاه. وربما كانت أشيع أصنام هذا العصر و أكثرها انتشارا هو صنم -الذات- عبادة النفس.. واتباع الهوى. المرأة التي تعبد جمالها.. والرجل الذي يعبد أناقته.. والممثل الذي يفتتن بشهرته.. و الفنان العابد لفنه.. والبطل المبهور ببطولته.. والمتحدث اللبق الذكي المعجب بنفسه وبذكائه.. ونجم السهرة المزهو بشخصيته.. وصاحب الملايين الفرحان بملايينه. والمال في أكثر الأحوال وفي هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع. وقد يختفي صنم -الذات- وراء صنم أكبر هو -العصبية- للعائلة، أو القبيلة، أو الطائفة، أو العرق، أو العنصر، أو الملة، و كلها أصنام.. و كلها عبوديات.. و كلها شرك. وعابد الله لا يكون عبداً لله إلاّ إذا تحرر منها جميعاً، وأسلم قلبه ووجهه خالصا ًمن جميع الشواغل والعلائق و التبعيات والمنازعات


القلب لله (( بلا منازع )).. هذا هو -الدين- أما ما نحن فيه فهو جاهلية.. جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة و نصبت أوثانها العصرية وأقامتها مكان اللات والعزى وهبل وبعل وأقامت لها الهياكل، ووُظفت لها السدنة والكهان و قُدرت لها النذور والقرابين. ولو أننا جلسنا إلى أنفسنا و صارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عُبّاد الأصنام.. يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأوثان الخفية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس. بتصرف




_________________________


من كتاب "الروح والجسد" للدكتور مصطفى محمود

No comments: