المكابرون من البشر.. هم الذين يجمدون على رأي واحد، وعمل واحد، وفكرة واحدة لا يتحركون عنها قيد أُنملة مهما كانوا مخالفين للحق فيما يذهبون إليه، وهم الذين لا يُصغون إلى ناصح، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يلتفتون إلى تذكير.. إنهم المهرولون في دروب مصالحهم الخاصة، وأهوائهم ورغباتهم، غير آبهين بمصالح الناس
المكابرون.. هم الذين قست قلوبهم فما يؤثر فيها نذير ولا وعيد، ولا يُحرِّكها وعظ ولا إرشاد، يغلقون أعينهم عن رؤية الحق، ويصمّون آذانهم عن الاستماع إليه، فإذا كانوا أصحاب قوَّة ومالٍ وسلطة، أضافوا إلى المكابرة الاستعلاء والخيلاء، فعميت بصائرهم عن رؤية الحق، وذهبوا في سبيل تحقيق رغائبهم كلَّ مذهب، وسلكوا إليها كلَّ سبيل حتى وإن كان سبيلاً محظوراً، ومذهباً باطلاً
المكابرون.. لا يرون الحقائق، ولا يقدِّرون حجم المشكلات؛ لأنهم ينظرون بمنظار واحدٍ، يغطِّيه غَبَشُ الوهم الذي سيطر عليهم، فالحق عندهم باطل، والباطل حقّ، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا يمضون في دروب مكابرتهم حتى يقعوا في حفرة الخاتمة السيئة وهم عنها غافلون
ونماذج المكابرين من البشر كثيرة جداً على مدى تاريخ البشرية، ونهاياتهم معروفة بالسوء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد.. فقابيل كان مكابراً حينما تطاول على أخيه هابيل، وقد وصلت به المكابرة إلى درجة استحلال دم أخيه، فقتله.. لقد وُضعت مكابرته في صندوقٍ مظلم ليس فيه إلا ثقب صغير يرى منه الأشياء، وهل يمكن أن يرى من ذلك الثُّقْب الصغير كلَّ شيء؟ لقد دفعته مكابرته إلى تلك النهاية السيئة التي أصبح فيها من الخاسرين ومن النادمين
ابن نوح عليه السلام كان مكابراً؛ ولذلك أُغلق ذهنه، وتجمَّد شعوره ومات قلبه، فما عاد قادراً على الاستماع إلى ما يقول أبوه نوح عليه السلام (اركب معنا).. جملة واضحة من نوح عليه السلام، ولكنَّ مكابرة الابن العاصي حالت بين ذهنه وبين وضوح هذه الجمل. المكابرة جعلت ابن نوح ينظر إلى الأشياء بمنظار مادّي بحت، فهناك جبل شاهق، وهنا سفينة مصنوعة من الخشب، والعقل البشري القاصر يقول الجبل أكثر أماناً، بينما نبوّة نوح عليه السلام وإيمانه بما هو عليه من الحق يقولان: السفينة أكثر أماناً
المكابر لا يفهم هذا المعنى الروحي العميق؛ ولهذا فهو لا يتجاوب معه، ولا يفتح له آفاق ذهنه، فتكون نهايته الضياع
نوحٌ نجا بمن معه في تلك السفينة، وابن نوح كان مع الهالكين، والأقوام الذين كذَّبوا أنبياءهم وطردوهم وقتلوهم مصابون بداء المكابرة
فرعون كابر حتى غرق، وهامان كابر حتى هلك مع سيِّده، وقارون كابر حتى خسف الله به وبداره الأرض، والنمرود كابر حتى قتلته حشرة، وأبو جهل كابر حتى مرَّغ تراب بدرٍ وجهه
وهكذا هو شأن المكابرين، ولو كان المكابر ذا رأي وعقل وبصيرة، ما استمرَّ في مكابرته وأمامه هذه التجارب التاريخية والواقعية العظيمة
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
No comments:
Post a Comment