Jan 16, 2008

بعض التواضع


نحن في عصر العلم ما في ذلك شك. صواريخ.. طائرات.. أقمار صناعية.. أدمغة إليكترونية.. ونحن في عصر الجهل ما في ذلك شك. فكل هذه الوسائل و الاختراعات العلمية نستخدمها في قتل أنفسنا وفي التجسس على أنفسنا، والذي لا يقتل يقول في غرور: أنا الذي سوف أسبق إلى القمر.. أنا شعب الله المختار.. أنا على حق والآخر على باطل.. أنا أبيض.. أنا جنس آري.. أنا جنس سامي.. وبين الغرور والاستعلاء والكبرياء والعدوان يضيع العلم، و يفتضح العلم، فإذا هو تفاخر الجهلاء بما يصنعون من لعب أطفال. وأجهل الجهل أن نجهل أمراً جوهريا ًواضحاً كالنهار. أن يجهل العالِم العظيم والمخترع العبقري أنه مخلوق.. وأنه يعيش على سُلفة.. على قرض.. السنوات القليلة التي يعيشها هي قرض وسلفة بأجل محدود.. وأنه لا يملك هذا القرض ولا يستطيع أن يمد في أجله



كل (( نبضة قلب))، وكل خفقة أنفاس، وكل خاطر، وكل فكرة، وكل خطوة، هي قرض.. سُلفة.. هي قرش ينفق من الرصيد. وهو رصيد لا نملكه ولم نبذل فيه جهداً.. وإنما هو عطاء مطلق أُعطي لنا منذ لحظة الميلاد. المخترع لا يخترع وإنما يجيئه الخاطر كما ينزل ندى الفجر على الزهر. والشاعر لا يؤلف من عدم، وإنما يهبط عليه إلهام الشعر فيورق عقله كما يورق الشجر في الربيع. فهل يمتلك الشجر أزهاره أو أنها هبة الربيع؟ والعلم ذاته هبة.. الكهرباء موجودة منذ الأزل من قبل أن تكتشف بملايين السنين، وهي التي كانت تضيء السماء بالبروق والصواعق. نحن لم نخترع الكهرباء و لم نأتِ بها، فهي موجودة.. وكذلك إشعاع الراديو وطاقة الذرة ومغناطيسية الحديد. كل هذه كنوز موجودة تحت أيدينا.. وهي بعض الهبات التي وهبناها دون أن نطلبها



نحن العلماء لا ندرك هذا وإنما نقول: اخترعنا، ابتكرنا، صنعنا، ألفّنا، صنّفنا.. ثم لا ندرك ما هو أخطر وأكثر وضوحاً و بداهة.. إن العمر الذي نعيشه هو أيضا هبة لم نطلبها ولم نجتهد فيها.. الجميلة لم تجتهد لتُولد جميلة.. والقوي لم يجتهد ليُولد قوياً.. والحاد البصر لم يجتهد ليُولد حاد البصر.. ونحن لا نقوم بصيانة هذا الشيء المعقد الملغز المعجز الذي اسمه الجسد الحي.. وإنما هو الذي يقوم بصيانة نفسه بنفسه بأساليب محيرة. نحن ننفق من شيك لا نملكه.. و مع ذلك نتبجح طول الوقت.. و نقول.. نحن اخترعنا نحن صنعنا.. نحن عباقرة.. نحن عظماء.. نحن على حق و الآخرون على خطأ.. نحن بيض و هم حيوانات.. نحن جنس سامي وهم جنس منحط، ثم نقتتل على ثروات لا نملكها و لا فضل لنا فيها جميعا، ولا فضل لنا حتى في تكويننا الجسماني. نحن مجرد مخلوقات تولد و تموت و تعيش على هبة محدودة من الخالق الذي أوجدها، ولو كنا نملك أنفسنا حقيقة لما كان هناك موت. ولكن الموت هو الذي يفضح القصة.. هو الذي يكشف لنا أنّ ما كنا نملكه لم نكن نملكه.. الشيخوخة هي التي تفضح جمال الجميلة، فإذا بجمالها هبة زائرة لا حقيقة باقية.. ولكننا نحن العلماء نجهل هذه الحقيقة الأولية الشاخصة ملء العين كشمس النهار.. ولو أدركنا هذه الحقيقة البسيطة لانتهت الحروب وحُل السلام وملأت المحبة القلوب وأشرق التواضع ليجمع العالم في أسرة واحدة


لو أدركنا هذه الحقيقة لالتفتنا إلتفاتة شكر إلى الوهاب الذي وهب


هل أُخطئ إذا اعتبرت هذا العصر أظلم عصور الجاهلية؟






_______________________

من كتاب "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود



No comments: