المرأة.. كالدنيا، فيها تقلبات الفصول الأربعة، تفيء إليها ذات يوم فتجد الظل والخضرة والعبير والثمر، وتلجأ إليها في يومٍ آخر فتراها تعرت عن أوراقها وجفت فيها الحياة وتوقف العطاء لا ظل ولا زهر ولا ثمر.. تتداول عليها الأحوال تداول الليل والنهار، والربيع والخريف، والمطر والجفاف، والجدب والنماء.. فإن كنت عشقت الظل والخضرة، والعبير والثمر، فذلك ليس وجه المرأة، فإن للمرأة كل وجوه الدنيا، وهي تشرق وتغرب مثل القمر، وتطلع وتأفل مثل الشمس، و تورق وتذبل مثل الورد.. فإن كان ما تنورت به عيناها ذات مساء هو ما عشقت فما عشقت وجهها بل وجه الله الذي أشرق عليها وعليك ذات مساء.. وحيثما يُشرق وجه الله تتنور المظاهر، ويورق الشجر، ويتفتح الزهر، ويجود الثمر، و يبتسم الولدان، وتهفو قلوب العشاق إلى من تعلقت به النعمة، وتجلى فيه الجود.. وساعتها تخطئ أقدامنا العنوان و تخطئ ألسنتنا الاسم الذي تسبح له.. وننسى بارئ النعمة، وننسى أنه لا أنا ولا أنت، ولا هي لنا من الأمر شيء.. و إنما كل ما حدث أن الله قال بلسان المظاهر.. ذات مساء في لحظة تجل.. أنا موجود.. أنا بديع السماوات و الأرض.. تتوقف هذه العين عند اللحظة وتتجمد عند القد والخد والخصر والنهد.. وتنسى مصدر الجود فينساها صاحب الفضل و يشيح عنها بوجهه الكريم.. فيذيقها الله الهجر وهي في القرب، ويُريها خيبة الأمل وهي في ذروة العمل، ويختم لها بالخذلان وهي في غفلة الهيمان.. وتلك هي صدمة العشاق التي أفاض فيها الشعراء وأطالوا، وهي في صميمها لفتة رحمة من الله، يوقظ بها الذين أُخلدوا إلى الأرض واتبعوا الأهواء ونسوا المعشوق والمحبوب و صاحب الفضل.. و الأصل كل الأصل.. الاسم الجامع لكل الكمالات.. وذلك هو الأكل من الشجرة.. ثم الاهباط بعد الأكل من الشجرة.. و النزول من سماوات المعرفة الرحيبة إلى سجون اللذات، وزنزانة اللحظات
تلك هي القصة التي تتكرر كل يوم منذ آدم وحواء وكلما اجتمع ابن لآدم وبنت لحواء... تتكرر الخيبة، ويتكرر الخذلان، ولا يعتبر عاقل ولا جاهل.. والذين أحبوا أو صُدموا يعودون إلى حبٍ جديد، وإلى خيبة أملٍ جديدة، ولا يشبع أهل الأمل من خيبة الأمل.. وكل مرة تزداد الغواشي على الحس، ويضيق مجال الرؤية، وتضيق الزنزانة على صاحبها، ويغرق أهل الصبابة في بحر الصبابة.. ولا ينجو من البحر إلا من عصم ربك. إنما هوّ بحر الظمأ الذي يجري بين ذراعي المرأة كلما شرب منه الشارب ازداد ظمأً، وكلما عب منه عبا احترق احتراقا.. يظن أنه يرتوي ويبترد.. فلا يبترد أبداً ولا يرتوي أبداً.. ولا يشبع أبداً.. ولا يسكن أبداً.. إنما عنده هو السكن.. وبين يديه القرار والاستقرار.. صدق أبو العتاهية في قوله: طلبتُ المستقر بكلِ أرضٍ فلم أر لي بأرضٍ مستقر. فلا مقر لنا في هذه الأرض ولا وطن لنا فيها، وإنما وطننا في بيت المعاد الذي جئنا منه، عند شجرة الخلد، حقاً وليس عند شجرة الجوع والظمأ التي أكل منها آدم ومازلنا نحن أولاده نأكل منها فنزداد جوعا على جوع، ولا نعرف شبعاً ولا راحة
إنما الحياة بجوعها.. وشجرة الأنوثة بربيعها وخريفها.. والزهور بتفتحها وذبولها.. والشمس بطلوعها وأفولها.. كلها رموز تتكلم بلسان الحال.. بأنها كلها قصاصات وعينات وعبوات صغيرة تشير إلى عالم آخر فيه النماذج المثلى، و الكمالات والأصول لكل هذا الذي نرى أمامنا في صندوق الدنيا.. وكأنما يضع لنا الطاهي قطرة في ملعقة ويقول لنا: ذوقوا! والحكيم هو الذي يذوق ويقول.. الله.. ما أحلى الطهو.. يذوق فقط ولا يفكر في أن يجلس ليأكل.. لأنه يعلم أن الدنيا مناسبة للتعرف.. وعينات للتذوق.. وعبور سريع في نفق أرضي من أنفاق المترو، فيه صور ومعروضات.. و كل حظ الراكب، لفتة هنا ولفتة هناك.. أما الجلوس للأكل والشروع في مباشرة الحياة الحقة فذلك لن يكون إلا بعد انتهاء الرحلة والخروج من النفق الأرضي إلى السطح، حيث نجد في انتظارنا نعيم الخُلد، والجنة التي عرضها السماوات و الأرض، والحياة الجديرة بأن نحياها حقاً.. حيث أرض الكمالات، وعالم المثل.. وذلك حظ من اتقى وفهم وعرف، وكان بينه وبين الله عمار وصلة وعهد. أما من قطع حبل الاتصال، وعاش حياة الانفصال، ولم يعرف لذة الوصال، وانشغل عن الحقيقة بعالم الأوهام، وتعلقت همته بالصغار، فذلك حظه البقاء في النفق المظلم، ونصيبه الإبعاد والاهباط من نفق مظلم إلى نفق آخر أشد إظلاماً ولا نهاية.. فليس للبعد نهاية، كما أنه ليس للقرب نهاية.. وليس لنعيم الله حدود، كما أنه ليس لعذابه حدود.. ومن يتلفت حوله في الدنيا ويتأمل عجائب صنعة الله، وغرائب آياته، يمكن أن يتصوّر كم يمكن أن يكون مذهلاً ومدهشاً ذلك العالم الكامل.. عالم الملكوت، الذي صنعه نفس الصان،ع ووعد به أحباءه
إن عظمة الصنعة من عظمة الصانع.. وليس أعظم من الله.. فكذلك نعيمه، وكذلك عذابه.. وأهل القلوب لا تجف لهم دموع من تصور يوم الجمع.. وساعة المصير. وهم الباكون، الراجفون، الضارعون، الداعون، الراكعون، الساجدون في هذا السامر من الولائم الكاذبة على مائدة الدنيا، حيث يعلم كل من يأكل أنه سوف يموت.. و مع ذلك يقتل الغافلون بعضهم بعضا على اللقمة، ويتنازعون على شربة الماء.. أولئك هم الصارخون في الخلوات
إلهي.. ارزقنا خوفك.. ضع الموت بين أعيننا.. فلا شيء يستحق البكاء سوى الحرمان منك.. ولا حزن بحق، إلا الحزن عليك.. أنت الحق.. وأنت ما نرى من جمال حيثما تطلعت عين، أو استمعت أُذن، أوحلّق الخيال.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين
__________________________
من كتاب "أناشيد الإثم والبراءة" للدكتور مصطفى محمود
No comments:
Post a Comment