Jan 28, 2008

تأمل .. وأمل



الكون .. بما فيه من كواكب ونجوم وشموس وأقمار، وبما يلفه من شاسع الفضاء .. يفتح أمام الإنسان باباً واسعاً للأمل .. للمنى .. والرجاء. إنه ذلك الإنسان السعيد المتفائل، المُحب للناس، الفرح بالحياة، الذي يتأمل حوله متملياً في قدرة الله سبحانه، خالق الأرض والسماوات



هو نفسه .. ذلك الإنسان المستبشر خيراً، الذي يرى في كمون بذرة ما، في تربة ما، تصنيعاً آخر للحياة
إنه لا يمكن أن يتخيل أبداً أن تلك البذرة الضئيلة الضعيفة، قد انطفأت فيها جذوة الحياة .. رغم مرقدها البارد، وإنما يوقن أنها هناك باقية تنسج رغم الظلام، رداءً ملوناً جميلاً .. فما تلبث أن تنمو أغصان .. وأزهار .. وأشجار



هو ذاته .. ذلك الإنسان الراضي القانع، الذي يخفق قلبه فرحاً، حين يلمح بقعة ظليلة وارفة، يمدد تحتها قامته المرهقة المتعبة، إثر طول لهاث ومعاناة .. إنه يشعر حينذاك بسعادة غامرة، وكأنه وجد كنزاً من الظلال



هذا المتفائل.. يرى بعين الأمل ابتسامة الحب تتألق على وجه القمر .. ويلمح بهجة الحياة تلمع في نظرات النجم الساهر .. ويسمع دبيب الحياة يسامر جزيئات النيازك، ويراقص النجوم المذنبة التي تعشق الدوران في مدار الأرض .. بل ها هي من فرط العشق والوله تتبادل الجزيئات بينها وبين الأرض .. والتي ربما أثّرت على التطور العضوي للحياة فوق بساطها



هذا الإنسان السعيد المتفائل ينظر حوله متحسراً، نادماً على ما فعل أخوه الإنسان .. متسائلاً كيف ارتكب تلك الجريمة النكراء، حينما دمر عشرات الألوف من الأشجار وفتك بها .. بحجة التقدم العمراني.. إنه الآن يبحث مشتاقاً عن اللون الأخضر في الأرض، أنه يظل يدور ويدور متلهفاً للعثور على الظل الأسمر مهما كان ضئيلاً، مقرراً في الوقت نفسه أن نصيب الفرد من المساحة الخضراء .. يدل على مدى تقدم ورفاهية الشعوب

Jan 27, 2008

اكتناز المشاعر



يفيض كلٌ منا في نواصي نفسه بمشاعر جيّاشة متفاقمة، تنتظر المناسبة المواتية ليصدع بها على صخرة الواقع، فيحيلها إلى ينابيع تتفجر، وخواطر تتوالى، وعبارات تتناغم وتتراقص على وتر الشعور المترامي المنبعث من شجا القلب، وحنايا رائجة في الحواس، يمكن انشطار شظاياها الرقيقة على المحيطين بك، مما يصعد رتبة التواصل بهذا الخيط الرقيق الناصع، الحامل في طياته وسمة البهاء والجمال، وقد نكت له في الحياة نُكتة الوجود، وآزر ديمومتها بمداد البقاء، فظل شاهدها للعيان يرنو بسرور ينسل إلى الوجدان، فيصعد بالمياه الراكدة إلى أمواج هادرة، تغرق محبيها في سيولة مياهها، أما وقد أدرك الفطنون تجليات هذا الأمر، فأبحروا بمشاعرهم، وأغدقوا كنهها وفيضها لمحبيهم، فآمنوا لهم حسن المودة والتلاقي، وبشوا بهم محبتهم، وأضرموا بذلك نار الشوق والتحنان، وآخرون قد بدا من ضيق يدهم، وضمور جودها، أن اكتنزوا مشاعرهم في محيط أجوافهم، فخنقوها في تلك الظلمة الكئيبة، وأغرقوها في سواد دامس مخيف، وبعد أن كانت تتشوف للخروج من قلب صاحبها للولوج لقلب محبها وكيانه، بدت الكزازة تشوبها، وبدا عبوسها المحطم مخيماً، يتضح دون أن يكشف ستاره، ويثير الدهشة دون أن يفصح عن مراده، وأظنه لو امتلك مال الشرق والغرب، لضاقت نفسه ولغابت أريحيته، فأي شخص قد اكتنز نتفاً من إحساس يراود به قريب، ويروض به حاقن، ويدفع به شر ناقم، فلم يفعل هذا السلاح المؤثر أيمّا تأثير، لحريٌ بنفسه أن يراجع صحائف من أعماله، وأن يقلب النظر في حياته، فلعله يقع على مكمن الخلل، ويصيب الداء فيحسمه بالدواء




إن الإنسان مدنيٌ بطبعه، يعيش في رحاب غيره من البشر، تتلقفه أوضاع الحياة كنحلة في قلب محشر خلية النحل، فحاجته للتواصل ماسة، ومتفاقمة مع حوائجه في الارتباط مع الآخرين، وللإحساس بشيء من الانتماء إلى قلب الكون الذي يحيط به، وما المشاعر إلاّ مسلك لذاك التواصل، وسبيل محفوف بالرجاء والتفاؤل يدفع باذلوه إلى مزيد من التفتح، وتفتق أوصال الحياة، فيتطلع إليها بمنظار رحب فسيح، وأنى أن لا يكون ذلك، وقد بذل من إحساسه، وأشركها معطيات الحياة، ما هيأته أن يقتحم غمرة الحياة برغبة وإرادة، وأسعفته في مواطن أُصيب فيها بخلل، فكانت مشاعره الطفرة منفذاً لإصلاح ما يمكن إصلاحه، قد يبدو من بيننا من يتهاون في قيمة المشاعر، ويستخف بضرورتها، ويتهكم في محيط أصحابه جرّّاء الحديث عن المشاعر، وما يعتلج في النفس من خواطر، ولا أظن صدره خاوياً من نزر من إحساس، أو فارغاً من إحساس، بل يمتلك ما يجعله في بحبوحة مؤنسة، ولحظات سعيدة مشرقة، فعجباً لمن يجافي والديه، وينأى عن زوجه وأهله، ويسلو عن خلانه وأصحابه، ويزعم بعد ذلك أن طاقات الإحساس والمشاعر تثوران في خواطره وتسيران أمام ناظره، قد يهون البعض من أهمية المشاعر وما يدور بسببها من تأثير، ويمكن أولئك المهونين والمتهاونين أن يسيروا إلى رفوف مكتبات تعج بتبيان مشكل هذه القضايا، مما يفك عقدها، ويغزل نسيجاً متناغماً في المجتمع على رحى مراعاة المشاعر، وسيره كائناً متمثلاً في شخص جراء ما يقع من امتثاله ولبس ثوبه وتقنعه، وأخيراً شتان بين فقر المشاعر، والتي أشد على يد أولئك الذين يشعرون بضمورها، على أن يسارعوا بدلق مياه الخواطر عليها، حتى تورق أشجارها، وتنضر ثمارها بين المجتمع، وأولئك الذين تتفجر المشاعر في جياش صدورهم، ولكنهم آثروا اكتنازها، فأولئك النفر قد وجهت إليهم مشاعري وحديثي، وجابهتهم بخواطري، فعسى أن يجابهوني بها، ويزفروها من بوتقتها الكامنة من سنين
أحمد العبد القادر

Jan 26, 2008

ساعة الفصل


قال ربنا (( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً(72) )) [ الأحزاب ] . فماذا فعل الإنسان في ذلك الذي أشفقت منه السماوات والأرض ؟! ماذا فعل الخليفة في الخلافة التي آلت إليه..؟! وماذا فعل في الأمانة التي أخذها على عاتقه..؟! لقد رفضت السماوات والأرض والجبال أن تحمل مسئولية تلك الأمانة.. وقالت: لا نريد أن يكون لنا الأمر، ولا تصريف في شئوننا معك يا رب.. أنت يا رب حسبنا.. تصرّفنا كيف تشاء.. نعمل بأمرك ولا نستخلف على شيء..أما الإنسان فقد قبل الخلافة وقبل مقتضياتها.. أن تكون له حرية وتصريف، وأن يكون له عمل، وأن يكون له رأي، وأن تكون له استقلالية في مملكته. وأعانه الله، فأعطاه العقل والحرية، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.. ومدّ له في الأسباب.. فماذا حدث ؟ لقد تنبأ له القرآن بأنه كان ظلوما جهولا بنفسه في قبوله لتك المسئولية.. فقد تعهد بما لا يستطيع، وحمل ما لا يقدر، وقد صادقت الحوادث على تلك النبوءة



لقد أطلق الإنسان يده في الأرض فأفسدها.. لوّث البحار والأنهار بالنفط والمبيدات، ومخلفات المصانع، وسموم المعادن الثقيلة.. لوّث الجو بغازات الكبريت وأكاسيد الأزوت والكربون والرصاص.. واتخذ من قلب الأرض والبحر مخازن للموت النووي والرعب الذري يدفن فيه النفايات القاتلة لصناعاته المهلكة.. فأتلف الميراث الذي تسلمه من سيده و مولاه. وأرسل له الله الرسل يهدونه إلى الشرائع، فخرق الشرائع، وطلب اللذة من وجوهها الشاذة باللواط والسحاق !! و خرجت قبائل من الشواذ تطالب بشرعية الفسق، وتقنن زواج الرجال بالرجال، وزواج النساء بالنساء، وتسير في مظاهرات علنية تطالب بحقوقها وتتخذ لها النوادي المرخصة.. ورأينا في زماننا العجيب.. تقنين هذه المخالفات يحدث أمام عيوننا، ومراسيم الكونجرس تقرر المساواة بين الشواذ والأسوياء في جميع الوظائف حتى وظائف الجيش. وتفنن الإنسان، فجعل من الحرية الجنسية شريعة مملكته، وأقام للزنا مؤسسات وأقمارا فضائية تنشره، وأبدع في إخراجه بجميع أوضاعه في أبهة من الألوان، ومواكب من الزخرف، واستأجر له الجميلات والفاتنات من كل جنس، وعرضهن عاريات، وبث العُهر مباحاً لكل من يشتري (( طبقاً )) ولكل من يوجّه (( هوائي استقباله )) إلى الفضاء.. وقامت دول كبرى بحماية هذه الصناعة الجديدة ونشرها، وتنافست شركات السينما في السبق إلى الموضة الجديدة، وجرى المسرح وراءها. وقرأنا آخر خبر جاء من أمريكا.. حكاية الممثلة الأمريكية كيم باسنجر التي رفضت تنفيذ بعض المشاهد العارية في فيلمها الذي تعاقدت عليه ( فيلم هيلينا ).. فرفعت عليها الشركة قضية تعويض و جاء حكم القاضي بغرامة 8 ملايين دولار تدفعها الممثلة لأنها رفضت خلع ملابسها الداخلية وامتنعت عن تنفيذ السيناريو كما أراده المخرج. انقلبت الأوضاع، وأصبحت التي تدفع الغرامة هي التي تتمسك بالعفة وترفض الفجور.. وأصبح (( الشرف )) هو الجريمة التي تستدعي توقيع أقصى العقاب ! وأصبح الحجاب هو الذي يدعو إلى المساءلة.. حتى في بعض بلاد الإسلام ! وفي تركيا، عُوقبت نائبة البرلمان بالحرمان من الجنسية؛ لأنها رفضت خلع الحجاب. وفي السياسة أصبح -الظلم- شريعة اسمها الحركي (( حقوق الإنسان )) ! واصطنعت الدول العظمى نظاماً جديداً للعالم يكون للعدالة فيه أكثر من مكيال.. للدول النامية مكيال، وللدول العظمى مكيال.. ولا تكون حقوق الإنسان لكل إنسان.. وإنما على حسب موقف هذا الإنسان.. معهم أم عليهم.. وعلى مقتضى المصلحة العاجلة للدول العظمى ذات الشأن ساعتها.. والمصالح تتغير من ساعة لساعة.. هذا الغش العلني في القيم والمعايير، وهذا الغش العلني في المُثل والأخلاقيات، أصبح هو القاعدة في عالم اليوم. وإذا تصورنا لسلوك هذا الخليفة خطاً بيانياً.. لرأيناه خطاً يسير إلى النازل طول الوقت من بداية آدم إلى الآن.. يسير من انحدار إلى انحدار إلى غور سحيق. وعلى العكس من ذلك ننظر إلى الخط البياني الآخر، الذي يعبّر عن نصيب هذا الإنسان الجاحد من النعمة الإلهية، فنجده صاعداً طول الوقت.. إلى الأغنى، والأقوى، والأكثر حظاً في كل شيء
نصيب هذا الإنسان من المال و الولد، و من ثمار الأرض و من العلم الذي أفاءه الله عليه وعلى سلالته في جميع فروع المعرفة.. الصناعة.. الزراعة.. الطب.. المواصلات.. الدفاع.. الكيمياء.. الفيزياء.. الفلك.. الفنون.. الثقافة كان في الزيادة دائما



الواحد ( آدم ) أصبح ببركة الله ستة آلاف مليون آدمي.. مشى على القمر، وأرسل السفن إلى المريخ والزهرة و أورانوس والمشتري، وأرسل الكاميرات الفلكية إلى ما وراء الشمس، وأرسل المجسات الفضائية تقيس الأشعات الخفية في أرجاء الكون، وزرع الأرض بالميكنة، وضاعف المحصولات بالهندسة الوراثية، واستولد الجديد المبتكر من الفواكه والثمار، واخترع السيارة والقطار والطائرة والصاروخ والتليفزيون والفاكس، واخترع الحسابات والذاكرة الكمبيوترية المذهلة، وصنع الأعاجيب في الطب والجراحة. زرع قلوب الموتى في الأحياء، و زرع الشعر والجلد والكبد والكلية و الأمعاء والرئتين، وزرع أجهزة السمع والبصر في الدماغ، وأنشأ بنوكاً يُحفظ فيها الحيوانات المنوية والبويضات في درجة حرارة تحت الصفر لتعيش سنوات وتكون تحت الطلب حينما يريد أن يستولد منها أجيالا جديدة. وقضى على الجدري، وأوشك أن يقضي على التيفود والتيفوس وشلل الأطفال والجذام.. وامتد بصره عن طريق المناظير الفلكية العملاقة، فأصبح يرى شموساً على بعد 15 مليون سنة ضوئية، واخترق بصره العالم الأصغر عن طريق المجهر، فأصبح يرى الميكروبات والفيروسات، وامتد سمعه إلى ما وراء المجرات، فالتقط ضوضاء الانفجار الذي بدأ به الكون.. أما قوة ذراعه فقد تعملقت إلى (( ونشات )) وروافع وصواريخ وقنابل ذرية وهيدروجينية، وتحولت إلى قوة تدميرية هائلة.. و أخيرا.. شبكة الانترنت.. عجيبة العجائب، التي يتصل بها أطراف العالم للتجارة الإلكترونية، ونشر العلوم و المعارف.. فماذا فعل بها الإنسان ؟.. استعملها في نشر الدعارة واللواط والفسق الفوري عن طريق التخاطب الإلكتروني. وفي نشوة انتصاره، ظن أنه الصانع الأوحد لكل هذا، ولم يدرك مصدر كل تلك الإلهامات والعلوم و المعارف.. وقال مثلما قال قارون: (( إنما أوتيته على علم عندي )) لم ير اليد الإلهية الخفية التي أعطت، ولا الملائكة التي ألهمت، ولم يكشف له ربنا ما كشف لنوح حينما قال: (( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا (37) )) [ هود ]. فكان نوح يعلم أنه يتلقى عن ربه علم صناعة السفن.. أما كل هؤلاء المخترعين، فكانوا محجوبين، وظنوا أنهم هم الذين أبدعوا و ابتكروا واخترعوا، فامتلأوا غرورًا، فكانت النتيجة تلك الغطرسة التي أخذت بتلابيب هذا الإنسان، فكان يزداد بطراً كلما ًازداد غنى، ويزداد تجبراً كلما ازداد قوة، ويزداد كفراً كلما ازداد علماً !.. وكان هذا الرسم البياني العجيب.. خطاً صاعدا أبداً يشير إلى امتلاكه المزيد والمزيد من القوة والثروة والمعرفة طول الوقت، يقابله خط نازل في انحدار مستمر يشير إلى سفالته وجحوده وقسوته وكفره.. كلما زاده الله نعمة ازداد جحوداً !! والعاقبة الطبيعية لكل هذا لا شك أنها تدور الآن في أذهانكم.. إننا نقترب الآن من اللحظة الحرجة.. فربنا من أسمائه الحسنى نعلم أنه الصبور، وقد صبر ربنا على هذا الجحود ثلاثة ملايين سنة، هي عمر هذا الإنسان، من أيام آدم أول البشر إلى الآن.. وهذا رقم فلكي في الصبر لا يقدر عليه إلا رب كريم حليم.. وما يزال الرب يُعطي وما يزال الإنسان يجحد.. ويكفر.. وقد أمده ربنا بمدد من الأنبياء و الرسل والمعلمين والمؤدبين والمصلحين والناصحين.. ولم يثمر هذا المدد سوى قلة مستضعفة مهزومة من المؤمنين مضطهدين ومضروبين في كل مكان.. ومحل سخرية و استهزاء من كثرة علمانية مفترسة فاجرة تملك السلطة و الأسباب والجاه والكلمة.. فلم يبق إذن إلا شيء واحد.. كارثة شاملة، تكون وقفة تأديب وإيقاظ لهذا الإنسان السادر في غفلته.. أو إعلام خاتم بنزول المسيح وظهور المهدي ليكون الرحمة الأخيرة قبل الغضب العام الذي يهدم به ربنا الأرض ويطوي السماوات على من فيها وما فيها ! وأشعر أنه قد أزفت الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة، وأننا نعيش بالفعل في زمان هذه الأحداث الكبرى.. أو أننا نقترب منها.. وأن الكوارث الصغرى التي نعيش فيها مثل اضطراب الطقس، وكثرة الزلازل، وتفجر البراكين، وكوارث السيول والفيضانات والأعاصير، وظهور الأمراض والفيروسات التي تتحدى العلم البشري، هي المقدمات المنذرة



إن عجلة التاريخ تسير الآن بإيقاع متسارع.. وما كان يحدث في ألوف السنين أصبح يحدث الآن في سنوات قليلة.. الانتقال من عصر الطاقة اليدوية إلى عصر الفحم، إلى عصر البخار، إلى عصر البترول، إلى عصر الكهرباء، استغرق ألوف السنين.. الآن يقفز التاريخ من عصر الذرة إلى عصر الإلكترونات، إلى عصر الكمبيوتر، إلى عصر الفضاء، إلى عصر الهندسة الوراثية في بضع سنوات.. وهذا يعني أن ما تبقى من تطور سوف يكون مضغوطاً في حيّز تاريخي قصير.. وأننا بالفعل نهرول إلى النهاية. والاحتمال الآخر أن يستمر التاريخ على ما هو عليه لألوف السنوات و ملايينها.. يمضي في رتابة كما هو، ويزداد الإنسان علماً و يزداد كفراً، ويلوث الكون أكثر، ويفسد في الأرض أكثر و أكثر، ويتعملق في قواه وجبروته، ويغزو الكون بحماقات بلا نهاية.. ويتحول البشر إلى ديناصورات جبارة يقاتل بعضها بعضاً، وتطارد كل صنوف الحياة في غباء.. وهو احتمال لا يصلح إلا إذا كان الكون بلا مكوّن، والعزبة بلا بواب، و الأرض بلا صاحب، والوجود بلا عقل.. وهو أمر مستحيل، فكل شيء في هذا الوجود من الذرة إلى المجرة ينطلق بالهندسة المحكمة، والتدبير الملهم، ويشهد بأن الله شاخص ماثل حاضر لا يغيب ولا ينام ولا يغفل ولا يسهو ولا يظلم مثقال ذرة.. وقد أهلك ربنا الدناصير الأولى ومسحها من الأرض حينما طغت وسيطرت على كل صنوف الحياة، وضرب لنا مثلاً لا ينكره إلا تفكير علماني غبي أو عناد كافر محجوب. والذي بين أيدينا من شواهد ينفي هذا الاحتمال ولا يقول بتلك العبثية المتخبطة العمياء.. فالكون بصير وليس أعمى.. وعينه هي الذات التي خلقته.. الله الحي الذي لا ينام.. وهناك منطق في التاريخ وفي الحوادث يحكم كل شيء في خفاء واستمرار.. ولا شيء يذهب سدى


ضعوا أيديكم على قلوبكم.. فقد مضى الكثير ولم يبق إلا القليل يا سادة.. فنحن مقبلون يقيناً على أحداث كبرى





_________________________


من كتاب "سوّاح في دنيا الله" للدكتور مصطفى محمود



Jan 25, 2008

لا تحصوها


لو أخَذَ أحدُنا وَرقةً وقلماً.. وقال: أحاوِلُ هذا اليومَ.. أن اُحصي نِعَمَ الله عَلَيَّ؛ حتى أعرفَها.. فأقدِرَها قَدرَها.. وعساني حينئذٍ أقدِرَ على شُكرِها، يُسَجِّلُ أولا.. نعمةَ الإسلامِ.. والإيمان.. والعقيدة الصحيحة.. وهو يرى العالَمَ يغرق في بِحارٍ من أوحالِ الكفر والإلحادِ والتخبُّط الأعمى والنظريات القاصرةِ المتقلِّبة ! فالحمد لله أن أتم نعمتَه علينا ورضي لنا الإسلام ديناً؛ فلولا فضلُه ونِعمتُه؛ لَكنَّا نخوضُ مع الخائضين
ثم يُسَجِّلُ نِعمةَ الاستقامة.. وأداء الفرائضِ.. والالتزام بأخلاق الإسلام وآداب التعامل.. وحب المساكين.. وإعانة الضعفاء؛ فإذا نعمة الاستقامة وحدَها تمثل مجموعةً من النِّعَم المتعدِّدة؛ أشبه بغُرَفِ الجنة
ثم يُسجِّلُ نِعمةَ المعرفة.. ولذةَ طلبِ العِلم.. ومُشاهدةَ العلماء.. ومُصاحبةَ الفضلاء الذين لا يشقى بهم الجليس! ثم التوفيق إلى أحسنِ العلوم، وهذا الاختيار لا يكون إلا بتوفيقِ الله؛ فكم من الناس يقضي عمره في طلب ما يضره ولا ينفعه
ثم نعمة أن تهتم بالقواعد والكليات؛ حتى لا تغرق في الفروعِ والجزئياتِ، ثم مُبارَكة هذا العِلم؛ حتى يَصِيرَ مَعرِفةً نافِعةً؛ تُهذب القلبَ والوِجدان، وتظهر ثَمراتُها على اللسانِ والأخلاق وتُصبح منهجاً للسلوك! فإذا بنِعمةِ العِلمِ نفسِها.. منظومةٌ من النِّعَم
ثم نعمة الصحة والعافية.. في البدن.. والسمع.. والبصر.. والعقل.. والنفس.. والسلوك! فهي كذلك نعمٌ كثيرةٌ
ثم نعمة الأمنِ والحفظِ والسترِ.. مِن شياطينِ الإنسِ.. والجنِّ.. ومِن التخبطِ في المواقِفِ.. والانحرافِ في المنهَج.. والسلامةِ من القلقِ والاضطرابِ.. والشعورِ بالطمأنِينة.. والسعادة.. والاستِقرار! وهذه أيضاً نِعَمٌ مُتعدِّدة
ثم نعمة الرِّزق.. مِن المالِ.. والعِيال.. بنين وبنات.. ومن الزوجةِ الصالحةِ المبارَكة التي ترعَى الزوج والأسرة.. ومن الحكمة في التصرُّف.. والسداد في القول.. والرشاد في السلوك. ثم نعمة العلاقات الطيبة مع الأفاضل.. واستشارتهم.. والتعلم منهم.. والتعاون معهم.. في خير الدين والدنيا
وهنا يتوقف عن الكتابة.. ويُدرك أنَّها نِعَمٌ عظيمةٌ.. جليلةٌ.. كثيرةٌ.. متنوِّعةٌ.. منها الظاهر، ومنها الباطن، كما قال الله عز وجل: (ألم تروا أنَّ اللهَ سخَّرَ لكم ما في السمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطِنةً). قال الطبري رحمه الله: يقول: (ظاهرة) على الألسن قولا، وعلى الأبدان عملاً... وباطنة في القلوب اعتقادا ومعرفة
فحِينَئذٍ يَتذكَّرُ قولَ الله جَلَّ جَلالُه: (وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها). فهذه النِّعَم التي أنعَمَ الله بها علينا لا نُحْصِيها عَدّاً ولا نعرفُ لها حَدّاً، كما قال القرطبِي رحمه الله: "(وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها) ولا تُطِيقُوا عَدَّها، ولا تقومُوا بِحَصْرِها؛ لِكَثْرَتِها: كالسَّمعِ والبَصرِ وتقويمِ الصُّوَر... إلى غير ذلك: مِن العافيةِ والرِّزقِ؛ وهذه النِّعَمُ مِن الله؛ فلم تُبَدِّلُون نِعمةَ الله بالكُفر؟ وهلا استَعَنْتُم بِها على الطاعة
وتأمَّلْ رَوعةَ التعبيرِ القرآني البديع: (لا تُحْصُوها)؛ ولم يَقُلْ: "لا تَشْكُرُوها" أو "لا تقدِرُوا على شُكْرِها"؛ فإنَّ إحْصاءَ النِّعَمِ مُتعَذِّرٌ؛ فكيف يُمكِنُ لِلعَبدِ أن يَقومَ بِشُكْرِ ما لا يُحْصِيه من النِّعَم؟! فقولُه تعالى: (وإن تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها) أي: تَضْبِطُوها؛ فَضْلاً أنْ تُطِيقُوا شُكْرَها (إنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ حيث يُنعِمُ عليكم مع تَقصِيرِكم وعِصْيانِكم ثم هذا الشُّكرُ نفسُه.. نِعمةٌ أخرى من نِعَمِ الله عليه؛ فكم من الناسِ يغفلُ ولا يكاد يَشكُرُ الله على نِعمَةٍ من نِعَمِه؟! قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذِكرُه: (وإنْ تَعُدُّوا) أيها الناس (نعمةَ الله) التي أنعَمَها عليكم؛ لا تُطيقُوا إحْصاءَ عَدَدِها والقِيامَ بِشُكْرِها إلا بِعَونِ الله لكم عليها... عن طلق بن حبيب قال: إنَّ حقَّ اللهِ أثقلُ مِن أنْ تقومَ به العِبادُ، وإنَّ نِعَمَ اللهِ أكثرُ مِن أنْ تُحْصِيَها العِبادُ؛ ولَكنْ أصْبِحُوا تَوابِين، وأمْسُوا توابين



إننا لا نعرفُ إلا طَرَفاً.. من نِعَمِ الله علينا؛ وهذا القليلُ.. الذي عرفناه؛ إنما كان بتوفيقِ الله لنا؛ ولولا توفِيقُه لكنا مِن الغافِلِين الجاهِلِين الذين يظنُّون النِّعَمَ من صُنعِ أيديهم.. ومن ثمراتِ نجاحِهم.. ومن حُسنِ تخطيطِهم
وإننا بعد مَعرفةِ بعضِ النِّعَمِ بتوفِيقِ الله.. لا نَقدِرُ على شُكْرِها؛ إلا بِتَوفِيقِ الله كذلك، واعتِباراً لهذا الضَّعفِ البشريِّ عن الشُّكرِ قال الله عزَّ وجَلَّ: (وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفورٌ رحيمٌ)، فهو يعلَم قُصُورَ العِبادِ وضَعْفَهم وعَجْزَهم؛ فلذلك يتداركهم بمغفرته ورحمته، كما قال الطبري رحمه الله: "(إنَّ الله لَغَفورٌ رَحِيمٌ)، يقول جَلَّ ثناؤه: إنَّ الله لَغَفورٌ لما كان مِنكم مِن تقصيرٍ في شُكْرِ بعضِ ذلك؛ إذا تُبْتُم وأنَبْتُم إلى طاعَتِه واتباعِ مَرْضاتِه (رحيمٌ) بكم أن يُعَذِّبَكم عليه بعد الإنابةِ إليه والتوبة". وقال ابنُ كثير رحمه الله: "نبَّهَهم على كَثرةِ نِعَمِه عليهم وإحْسانِه إليهم، فقال: (وإن تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفورٌ رَحِيم): أي يتجاوز عنكم؛ ولو طالَبَكم بِشُكْرِ جَمِيعِ نِعَمِه لَعَجِزْتُم عن القيامِ بذلك، ولو أمَرَكم به لضَعفتم وتَرَكتم؛ ولو عَذَّبَكم لَعَذَّبَكم وهو غير ظالمٍ لكم، ولكنه غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغفرُ الكثيرَ ويُجازي على اليسير



اللهم أعنّا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك
د. محمد عمر دوله

Jan 23, 2008

السم .. والترياق



لكل شيء آفة من جنسه.. حتى الحديد سطا عليه المبرد.. الله خلق لكل شيء آفته التي تعتدي عليه.. خلق القطن وخلق دودة القطن، خلق النبات وخلق الجراد، خلق الأسنان و خلق السوس، خلق العين وخلق الرمد، خلق الأنف وخلق الزكام، خلق الثمرة وخلق العفن، خلق الإنسان وخلق معه جيشاً من الأعداء لاغتياله: من قمل، وبق، وبراغيث، وبعوض، وديدان، وبلهارسيا، وميكروبات، وسل، وجذام، وتيفود، وكوليرا، وقراع، وصديد.. وخلق الحياة وخلق الحر و البرد، والصقيع و رياح السموم.. لم يرد بالدنيا أن تكون دار سلام.. وإنما دار حرب وصراع وبلاء وشد وجذب وكر وفر.. لأنه علم بحكمته أن حياتنا الدنيوية إذا أخلدت إلى الراحة و الأمن و الدعة و السلام ترهلت وضعفت وانقرضت. وعالم الفسيولوجيا يقول لك إن سم الميكروب يحفز النسيج إلى الاحتشاد.. كما تدفع لسعة البرد الدم إلى الشرايين




إن العدوان المستمر الذي جعلته الطبيعة شريعتها في الأرض أراده الله لمخلوقاته تحدياً مستمراً.. ليشحذ كل مخلوق وسائله و يبدع ويبتكر ويحتشد و يخرج أحسن ما يختزن من طاقات، و يكون دائماً على أكمل الصور الممكنة، وبدون هذا التناقض والصراع والكفاح كان مصير الحياة إلى ضمور وتخاذل وتكاسل ثم انقراض تدريجي.. وهذا ما نشاهده في الأفراد والأمم حينما تخلد إلى الراحة والترف ويطول بها حبل الأمن والسلام والدعة. وكما خلق لنا الله المرض خلق لنا الدواء في عشب ينمو تحت أقدامنا.. وفي شراب في الينابيع التي تتفجر حولنا في كل مكان.. وفي العناصر الكثيرة تحت الأرض وفوقها.. وأمدنا بالعقل الذي يبحث و ينقب، وللحكمة ذاتها ألقى الله وسط الدول العربية المتخاذلة المترهلة بعدو شرس هو إسرائيل.. ومكّن هذا الجسم الغريب ليكون حافزاً إلى اليقظة والاحتشاد. إسرائيل هي الميكروب، هي التحدي القائم في الجسم العربي ليثبت حيويته، ويشحذ طاقاته، ويهب من نومه الطويل، وينتفض من تخلفه. وبرغم كل ظواهر اليأس فأنا متفائل شديد الثقة بالمستقبل.. فالسنن الكونية، والقوانين الإلهية، تعمل عملها في الكيان العربي. وما نعيش فيه من كارثة، أراها على العكس مظهراً من مظاهر القانون الأزلي لتصحيح الأشياء.. فبهذا التحدي المستمر وبهذا الخنجر المسموم المغروس في أحشائنا سوف نحتشد في جسم موّحد طال بنا الزمن أو قصر.. لنواجه محنة أن نكون أو لا نكون.. و ما نعيش فيه الآن هي أيام الحمى التي تسبق الشفاء




إن خلافتنا الداخلية وانقسامتنا الداخلية أشبه بالصديد الذي يتخلف في الجراح من جرّاء التهاب النسيج بالسم الميكروبي والأجسام المضادة التي يفرزها.. وهي مرحلة يليها تدفق الدم من النسيج المحتقن ليغسل كل شيء ثم يعقب ذلك الالتئام والشفاء. وهي أشياء نتعلمها مما يجري على النسيج الحي حين يتكاثر عليه الأعداء، وهي قوانين أزلية وضعها الله للخلية والجسم الحي والأمة والإمبراطورية.. ولا يستطيع أن يشذ عنها مخلوق. إن الذي يجعل من واقعنا الحالي سبباً لليأس لا يفهم الدنيا ولا يفهم التاريخ. لقد تقاتلت الأمة الأمريكية قبل أن تتوحد في حرب شرسة بين شمالها وجنوبها.. وكذلك الصين.. لم يقل أحد إنها انتهت، أو إنها كتبت وثيقة فنائها.. بل العكس هو ما حدث.. فقد كتبت بهذا الدم ميلادها.. وفي الحساب الأزلي للأرباح والخسائر.. وفي سجل التاريخ.. لا تضيع نقطة دم واحدة.. ولا تهدر ضحية.. و إنما لكل شيء دوره في صياغة النصر النهائي.. والنصر دائماً للحق و الخير








______________________


من كتاب " الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود



Jan 22, 2008

من مخاطر الفراغ


إذا كنا دائماً نتغنَّى بأمجاد السابقين.. فليست مآثرُهم قصصاً خياليةٌ نُسلي بقراءتها أنفسنا، وليست شخوصُهم دُمَاً مُحنَّطةً نظُنُّ أنه يكفينا أن نُمعن النظر فيها لتجلوا أحزاننا أو تخفف من مآسينا.. كلا فلا بد من القراءة بوعي، ولابد من الجد والحزم، وتعالوا بنا لنصارح أنفسنا ونقارن بين واقعنا وواقعهم، ولنعلم الفرق بين استثمار أوقاتِنا وأوقاتِهم، وحين المصارحة لابد من القولِ أن فينا من يحسُّ بالوقت عبئاً على كاهلِه لا يدري بماذا يصرفه، وكم هو مؤلم أن تسمعَ في مجتمع المسلمين من يقول: تعال بنا لنضيع الوقت، وربما خفف العبارة آخرون فقالوا: هيا بنا لنقضي الوقت، ومؤداهما واحدٌ إذا كان الاجتماعُ لتزجية الفراغ بما لا ينفع، وأشدُّ إيلاماً إذا كان الوقتُ يُقضى بما يضرُّ ولا ينفع




إن حياة المسلم لا مكان فيها للإضاعة والتفريط، وإن جراحات المسلمين لفتت أنظار الكافرين، فكيف تغيب عن المسلمين فيظلون لا هين لاعبين؟ وإذا أباح الإسلامُ للمسلم الترويح عن النفس ساعةً وساعة فذلك محكوم بضوابط الشرع، والهدف منه تجديدُ النشاط والحفاظُ على النفوس من الكلل والملل، لكن أن تتحول الحياة إلى لهوٍ ولعب وإضاعة للوقت في معظم الأوقات وتصبحُ الجِّدِّيةُ واستثمارُ الأوقات حدثاً طارئاً وحالة استثنائية في الحياة، فذلك انتكاسٌ في المفاهيم لا يُسأل عنه الإسلام وسيحاسب عليه المسلمون. وقولوا لي بربكم: من يمضي سحابةَ النهار بالنوم، ويمضي ساعات الليل في السهر بما لا فائدة فيه، وسواء كان على الأرصفة أو غيرها، هل استثمر وقته واستفاد من عمره؟ والمصيبةُ أدهى وأعظم إذا كان هذا الصنفُ من شبابِ الأمة وأملِها في المستقبل؟ وإنه لحق على الخيرين أن ينصحوا لإخوانهم الغافلين، وأن يصدقوا ويتلطفوا لهم في القول، فما خاب من كان سلاحُه في الدعوة: الصدق والإخلاص واللين، وإن في هؤلاء الشبابِ من يسمع ويستجيب، وفيهم طيبُ القلبِ حصيفُ العقل، لكنها الغفلة والشرودُ، ودواؤها الكلمةُ الطيبةُ، والموعظةُ بالحسنى، وعدمُ اليأسِ والإعراضِ والصدود؟ وكيف يستثمرُ وقته من يمضي الساعاتِ الطوال في مشاهدة الأفلامِ الهابطة، أو سماع الكلمات والألحان الغرامية الساقطة، أو قراءة الصحف والمجلات ذات الفكر المنحرف وحاملات الصور الرخيصة، والمتخصصات في أركان التعارفِ المشبوهة، والدعوة للعري، والتحلل من القيم والفضيلة





إن من الخطأ أن نتصور أنّ عالم اليوم عالم غزو للفضاء فحسب، وننسى أنه عالمُ غزوٍ للأفكار رهيب، وعالمُ حربٍ للعقائد والقيمِ -مُسَيَّسٌ- مدروس، وإن من البساطة والتغفيل أن نتصور أن هذا المشهد المخرج يهدف إلى المتعة والتسلية لا أكثر، وأن هذا البرنامج المعد يرمي إلى الثقافة المجردة ليس إلا، كلا فطمسُ الهوية الإسلامية وتذويبُ شخصيتنا والسيطرةُ على أدمغتنا هدفٌ يراهن عليه الأعداء، ومن آخر وأخطر وسائلهم لذلك: التلفزيون والبثُ المباشر، هذا الغزوُ الذي تحفزنا لمواجهته في البداية – كعادتنا - ثم بدأ البعضُ منا يستسلم له
أجل لقد خصصت الصحافةُ العالميةُ والمحليةُ حيزاً من زواياها للتحذير من هذا الغول الجديد -ولكننا مع الأسف أمةٌ لا تقرأ، أو تقرأ ولا تستفيد مما تقرأ





وحتى يستيقظ الغافلون، وعسى أن يستدرك المسلمون، أنقل لكم صيحة مفكرٍ أنذر بخطر البث المباشر فأعذر، يقول الدكتور فهمي هويدي: " إن هذا الاستعمار خرج من شوارع المدن، لكن سيعود عن طريق البث المباشر، وعودته هذه المرة ليست إلى الأسواق فقط، ولكن عاد ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوةَ في غرفنا، والمبيت في أسرَّة نومِنا، رجع ليقضي على الدين واللغةِ والأخلاق، كان يُقيم بيننا بالكُره -يعني الاستعمار- ولكن عادَ لنستقبله بالحبِّ والترحاب، كنا ننظرُ إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدتهِ والجلوسِ معه، إنه الاستعمارُ الجديد، إنه خطرٌ يهدد الجيل الجديد كله". ومهما كثر الحديثُ عن التلفزيون والبث المباشرِ فليس طويلاً، لأن الإحصاءات العلمية تثبت طول الساعات التي يقضيها المشاهدون أمام هذا الجهاز ولاسيما الأطفال والنساء، وهنا مكمنُ الخطر.
أيها القارئ العزيز لا تظن أنك حين تجلب الدُّشَّ إلى بيتك توفر السعادة، وتدخل الأنس إلى أفراد عائلتك، كلا، فأنت متسبب في دخول اللصوص إلى بيتك، وأنت تعين الغزاة والمستعمرين وتمكنهم من مخاطبة فلذات كبدك. وليس هذا حديثاً مكتملاً عن البث المباشر بقدر ما هو إشارة إلى نوع خطيرٍ يُزْجي به بعضُ المسلمين أوقاتهم، وأنصح بقراءةِ الكتب المؤلفة عن البث المباشر، وسماع المحاضرات النافعة في هذا المجال، للتعرف على المخاطر ووسائل العلاج. والله من وراء القصد

Jan 21, 2008

الأصنام



نحن نقول إننا في عصر العلم.. وإننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها وأوثانها.. ولم يعد هناك من يعبد اللات والعزى و هُبل ولا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة. ولكني أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد ونركع ونحرق البخور و نرتل التسابيح والابتهالات في كل لحظة لأصنامٍ لا حصر لها. نحن في الجاهلية بعينها ولو تكلمنا بلغة الإلكترونات.. ولو مشينا على تراب القمر.. إنما اختلفت أسماء الأصنام.. واختلفت صورها ونوعياتها.. وتسترت تحت ثياب الألفة.. و لكنها هي الأصنام بعينها. ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم؟.. وهل هو إلاّ صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجى. لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروّج بها أي بضاعة.. صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر، وإعلانات الخمور، والصابون، والبيرة، والكاميرات، والساعات، و الحراير، والأقمشة، حتى أدوية الزكام، وشفرات الحلاقة، ومعاجين الأسنان. وهي عامل مشترك في كل أفيشات السينما و المسرح.. وهي على أغلفة المجلات، وعلى كروت المعايدة، وفي جميع -الفاترينات- بمناسبة وبدون مناسبة، وهي على علب الشيكولاته، وعلب البونبون، وزجاجات العطر، ونجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات.. ونفاجأ بها في إعلان سيارات تفتح لنا الباب، وفي طائرات س م ع تقدم لنا طبقا من الجاتوه مع ابتسامة.. وإلى جانب مطحنة بن تقدم لنا فنجانا من القهوة.. بل وفي إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبني بيتاً جديداً.. وهي دائما عارية أو نصف عارية أو -بالمايوه- ، وكأنما لا وسيلة لجذب الانتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد.. ولا طريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن. إنه الذكر والابتهال والتسبيح العصري، تُسفح فيه الدموع، وتًنشد الأشعار، وتُرتل المزامير و الأغاني والرباعيات والسبعايات، وتُؤلف المسلسلات والحلقات.. كل حلقة تشحذ الذهن وتثير شهية المستمع و المتفرج


أما الصنم الثاني أو لعله المعبد أو الكاتدرائية العظمى أو جبل الأولمب الذي يتجمع فيه حشد الآلهة العصرية، فهو فاترينة البضائع الإستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة الريكوردر والتليفيزيون و الساعة الذهبية والسوار الماسي. والابن يقتل أباه، والأخ يسرق أخاه، والموظف يختلس، والصانع يغش، والصراف يزور، والمزيف يزيف في سبيل هذه الفاترينة الوهاجة.. فاترينة الأحلام.. الكل يتهجدون ويسهرون الليل يصلون لها.. و كل شيء يفنى ما عدا وجهها ذي الجلال و الإكرام المضاء دائما بالنيون والفلورسنت في حي المال والتجارة من كل مدينة


أما الصنم الثالث فهو الهيكل.. هيكل الفكرة المجردة والنظرية والمذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب.. لا يرى حقاً إلا ما تقوله بنود نظريته، ولا يرى صدقاً إلا ما يأمر به مذهبه، فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يُحرق حياً.. وهو يعيش بفكر مقلوب ومنطق معكوس، فالإنسان عنده يجب أن يُوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان. وهذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد، وعابد قصاصات الورق، والشعارات الطنانة الكاذبة.. وهو أحد مجانين هذا الزمان


و صنم آخر شائع هو الدكتاتور والحاكم المطلق والطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة ومن حوله بلاط الهتافين و المصفقين وحملة المباخر والمجامر والمسبحين بالحمد والمنافقين والكذابين وقارعي الطبول ونافخي الأبواق.. تزفه الأناشيد والأهازيج في كل مكان.. ويلقن الاطفال في مدارسهم.. إنه الرزاق والمنقذ والمعين الذي يطعمهم من جوع و يؤمنهم من خوف ويكسوهم من عري، وأن عليهم أن يتوجهوا إليه بالتسبيح والتحميد كل صباح.. وأن عليهم أن يحفظوا كلماته و يعوا وصاياه و يلتمسوا رضاه. وربما كانت أشيع أصنام هذا العصر و أكثرها انتشارا هو صنم -الذات- عبادة النفس.. واتباع الهوى. المرأة التي تعبد جمالها.. والرجل الذي يعبد أناقته.. والممثل الذي يفتتن بشهرته.. و الفنان العابد لفنه.. والبطل المبهور ببطولته.. والمتحدث اللبق الذكي المعجب بنفسه وبذكائه.. ونجم السهرة المزهو بشخصيته.. وصاحب الملايين الفرحان بملايينه. والمال في أكثر الأحوال وفي هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع. وقد يختفي صنم -الذات- وراء صنم أكبر هو -العصبية- للعائلة، أو القبيلة، أو الطائفة، أو العرق، أو العنصر، أو الملة، و كلها أصنام.. و كلها عبوديات.. و كلها شرك. وعابد الله لا يكون عبداً لله إلاّ إذا تحرر منها جميعاً، وأسلم قلبه ووجهه خالصا ًمن جميع الشواغل والعلائق و التبعيات والمنازعات


القلب لله (( بلا منازع )).. هذا هو -الدين- أما ما نحن فيه فهو جاهلية.. جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة و نصبت أوثانها العصرية وأقامتها مكان اللات والعزى وهبل وبعل وأقامت لها الهياكل، ووُظفت لها السدنة والكهان و قُدرت لها النذور والقرابين. ولو أننا جلسنا إلى أنفسنا و صارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عُبّاد الأصنام.. يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأوثان الخفية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس. بتصرف




_________________________


من كتاب "الروح والجسد" للدكتور مصطفى محمود

Jan 20, 2008

الراكضون بلا هدف


قوم يركضون، لا يكادون يتوقفون، كلما رأوا بريقاً طاروا إليه، أو سمعوا صوتاً غريباً هرعوا إليه، أو لاح لهم خيال من بعيدٍ تسابقوا إليه، يركضون بلا توقُّف، وينصاعون بلا تدبُّر، ويقذفون بأنفسهم في الطرقاتِ بلا تفكُّر، فأنفاسهم دائمة اللُّهاث، وقلوبهم دائمة الخَفَقان، وأيديهم دائمة الرَّجَفان، لأنهم لا يتوقفون عن ملاحقة كلِّ ما يلوح لهم في الأفق، وما يعِنُّ لهم في الطُّرق، يحسبون كل قادمٍ قاصداً لهم، وكلَّ صيحةٍ عليهم، ولهذا فهم لا يتوقفون


هؤلاء هم الرَّاكضون بلا هدف، همُّهم أنفسُهم التي شقيتْ بهم، فما وجدت منهم ما يسرُّها ويسعدها، وإنَّما وجدت ما يُؤلمها ويُكدِّرها، ولهذا أشقتهم بقدر ما شقيت بهم، ودفعتهم إلى التذبذب والاضطراب كما دفعوا بها


الراكضون بلا هدف قومٌ ضعفت علاقتهم بربهم، فتعلَّقوا بالبشر، يتابعون الأقوى، ثم يتركونه إذا ضعف إلى من يكون أقوى، حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى غثاءٍ لا نفع فيه، ثم ينتقلون إلى وَهْم جديدٍِ في ركضٍ جديد، حتى يصلوا إلى سوء المصير.. تعلَّقوا بالبشر دون ربِّ البشر، ومن فعل ذلك اضطرب وانكسر، وعلى خشبة الوهم انتحر


نحن نقول لهؤلاء: قفوا قليلاً، تأملوا ما حولكم، حتى تروا حقائق الأشياء، وعندها ستعرفون كم تتعبون وتخسرون..
فكم من راكضٍِ بلا هدفٍ ضاعت حياته، وضاعت أمانيه، وتاهت في دروب الخسارة مراكبه

د. عبد الرحمن صالح العشماوي
___________________________


إشارة


قد قسَّم الله أقدار العبادِِ فلن *** ترى جميع عباد الله أَشرافا



Jan 19, 2008

العلاقة التي لا تنقطع


علاقتك بالله هي التي تعطيك القوة العظيمة، والطاقة الهائلة في الحياة.. هذا ما يجب أن تعرفه أيها الإنسان المسلم الذي تحمل بين جنبيك كنوز إيمانك برب العالمين، وهذا ما يجب أن تضعه نصب عينيك وأنت ترى هذه الفتن العظام التي تشتعل نيرانها في عالمنا المعاصر، وهذا ما يجب أن تجعله ميداناً لعملك الصالح في هذه الحياة، وسعيك الراشد فيها


إن العلاقة بالله عز وجل طاعة وإذعاناً، وعبادة ويقيناً، وابتهالاً ودعاء، هي التي تكوِّن الإنسان المسلم القوي، الفاعل، المحسن، الشجاع الذي لا يرضى بالدنيَّة، ولا يتأثَّر بالأهواء الشيطانية، ولا ينحدر إلى خنادق العنصرية والعصبية. الإنسان المسلم الذي لا يلطِّخ يده بحقوق الأبرياء ودمائهم، ولا يدنّس لسانه باغتيابهم وشتمهم والإساءة إليهم. علاقتك بالله هي التي تجعلك إنساناً راقياً روحاً وبدناً، عقلاً وشعوراً، تجعلك إنساناً بصيراً بالأمور، عارفاً بأبعادها، مدركاً لمراميها، لأن العلاقة بالله تنير البصيرة، وتفتح نوافذ الفكر السليم، والعقل السديد، وتعصم نفس صاحبها من الانسياق وراء الشبهات المظلمة، والشهوات المعتمة، أما ما يدَّعيه بعض الذين شرقوا بأفكارهم وغرَّبوا، وأسهبوا في الترويج للباطل وأطنبوا، فهو من نتائج ضعف العلاقة الصحيحة السديدة بالله عز وجل، ذلك لأن من يرى ان سبب الفتن، والإرهاب إنما هو التدين، والالتزام بأهداب الشرع، وما يتعلق بذلك من الكتب والخطب والبرامج والمواعظ والأشرطة إنما دفعه إلى هذه الرؤية وهمه، وشبهة مسيطرة على عقله، وغفلة عن الحق الواضح تحول بينه وبين الرأي السديد، والحكم الرشيد

العلاقة الوثيقة بالله شأن الصالحين المصلحين، الذين يعدلون في أحكامهم، ويتزنون في طرح آرائهم، ولا يستسلمون لأوهام أهل الباطل وتضليلهم وإرجافهم، وينظرون إلى الأشياء بالمنظار الصحيح الذي يرون به الحق حقاً، والباطل باطلاً، مهما أرجف المرجفون، وضلل المضللون


العلاقة الوثيقة بالله تمنحك - أيها الإنسان المسلم - اطمئناناً في القلب، وصفاء في الرؤية، وحكمة وصواباً، وعدلاً في الأحكام التي تطلقها انطلاقاً من أمر الدين الإسلامي بالعدل في كل الحالات

العلاقة الوثيقة بالله نور يضيء الطريق، وغصن وارف يظلل السائرين في هجيرة الأوهام، وقيظ الانحراف، وهي التي تجعل الإنسان على صلة بربه عبادة ودعاء، والدعاء هو العبادة .. ذلكم الدعاء الذي ينقل الإنسان من أوحال الحياة الدنيا اللاهية إلى قمم الحق والخير والهدى، والنجاة في الدنيا والآخرة

تسقط كل علاقات الدنيا الزائفة، وتبقى العلاقة بالله الأوثق والأبقى
د. عبد الرحمن العشماوي

Jan 18, 2008

الشجرة



المرأة.. كالدنيا، فيها تقلبات الفصول الأربعة، تفيء إليها ذات يوم فتجد الظل والخضرة والعبير والثمر، وتلجأ إليها في يومٍ آخر فتراها تعرت عن أوراقها وجفت فيها الحياة وتوقف العطاء لا ظل ولا زهر ولا ثمر.. تتداول عليها الأحوال تداول الليل والنهار، والربيع والخريف، والمطر والجفاف، والجدب والنماء.. فإن كنت عشقت الظل والخضرة، والعبير والثمر، فذلك ليس وجه المرأة، فإن للمرأة كل وجوه الدنيا، وهي تشرق وتغرب مثل القمر، وتطلع وتأفل مثل الشمس، و تورق وتذبل مثل الورد.. فإن كان ما تنورت به عيناها ذات مساء هو ما عشقت فما عشقت وجهها بل وجه الله الذي أشرق عليها وعليك ذات مساء.. وحيثما يُشرق وجه الله تتنور المظاهر، ويورق الشجر، ويتفتح الزهر، ويجود الثمر، و يبتسم الولدان، وتهفو قلوب العشاق إلى من تعلقت به النعمة، وتجلى فيه الجود.. وساعتها تخطئ أقدامنا العنوان و تخطئ ألسنتنا الاسم الذي تسبح له.. وننسى بارئ النعمة، وننسى أنه لا أنا ولا أنت، ولا هي لنا من الأمر شيء.. و إنما كل ما حدث أن الله قال بلسان المظاهر.. ذات مساء في لحظة تجل.. أنا موجود.. أنا بديع السماوات و الأرض.. تتوقف هذه العين عند اللحظة وتتجمد عند القد والخد والخصر والنهد.. وتنسى مصدر الجود فينساها صاحب الفضل و يشيح عنها بوجهه الكريم.. فيذيقها الله الهجر وهي في القرب، ويُريها خيبة الأمل وهي في ذروة العمل، ويختم لها بالخذلان وهي في غفلة الهيمان.. وتلك هي صدمة العشاق التي أفاض فيها الشعراء وأطالوا، وهي في صميمها لفتة رحمة من الله، يوقظ بها الذين أُخلدوا إلى الأرض واتبعوا الأهواء ونسوا المعشوق والمحبوب و صاحب الفضل.. و الأصل كل الأصل.. الاسم الجامع لكل الكمالات.. وذلك هو الأكل من الشجرة.. ثم الاهباط بعد الأكل من الشجرة.. و النزول من سماوات المعرفة الرحيبة إلى سجون اللذات، وزنزانة اللحظات


تلك هي القصة التي تتكرر كل يوم منذ آدم وحواء وكلما اجتمع ابن لآدم وبنت لحواء... تتكرر الخيبة، ويتكرر الخذلان، ولا يعتبر عاقل ولا جاهل.. والذين أحبوا أو صُدموا يعودون إلى حبٍ جديد، وإلى خيبة أملٍ جديدة، ولا يشبع أهل الأمل من خيبة الأمل.. وكل مرة تزداد الغواشي على الحس، ويضيق مجال الرؤية، وتضيق الزنزانة على صاحبها، ويغرق أهل الصبابة في بحر الصبابة.. ولا ينجو من البحر إلا من عصم ربك. إنما هوّ بحر الظمأ الذي يجري بين ذراعي المرأة كلما شرب منه الشارب ازداد ظمأً، وكلما عب منه عبا احترق احتراقا.. يظن أنه يرتوي ويبترد.. فلا يبترد أبداً ولا يرتوي أبداً.. ولا يشبع أبداً.. ولا يسكن أبداً.. إنما عنده هو السكن.. وبين يديه القرار والاستقرار.. صدق أبو العتاهية في قوله: طلبتُ المستقر بكلِ أرضٍ فلم أر لي بأرضٍ مستقر. فلا مقر لنا في هذه الأرض ولا وطن لنا فيها، وإنما وطننا في بيت المعاد الذي جئنا منه، عند شجرة الخلد، حقاً وليس عند شجرة الجوع والظمأ التي أكل منها آدم ومازلنا نحن أولاده نأكل منها فنزداد جوعا على جوع، ولا نعرف شبعاً ولا راحة


إنما الحياة بجوعها.. وشجرة الأنوثة بربيعها وخريفها.. والزهور بتفتحها وذبولها.. والشمس بطلوعها وأفولها.. كلها رموز تتكلم بلسان الحال.. بأنها كلها قصاصات وعينات وعبوات صغيرة تشير إلى عالم آخر فيه النماذج المثلى، و الكمالات والأصول لكل هذا الذي نرى أمامنا في صندوق الدنيا.. وكأنما يضع لنا الطاهي قطرة في ملعقة ويقول لنا: ذوقوا! والحكيم هو الذي يذوق ويقول.. الله.. ما أحلى الطهو.. يذوق فقط ولا يفكر في أن يجلس ليأكل.. لأنه يعلم أن الدنيا مناسبة للتعرف.. وعينات للتذوق.. وعبور سريع في نفق أرضي من أنفاق المترو، فيه صور ومعروضات.. و كل حظ الراكب، لفتة هنا ولفتة هناك.. أما الجلوس للأكل والشروع في مباشرة الحياة الحقة فذلك لن يكون إلا بعد انتهاء الرحلة والخروج من النفق الأرضي إلى السطح، حيث نجد في انتظارنا نعيم الخُلد، والجنة التي عرضها السماوات و الأرض، والحياة الجديرة بأن نحياها حقاً.. حيث أرض الكمالات، وعالم المثل.. وذلك حظ من اتقى وفهم وعرف، وكان بينه وبين الله عمار وصلة وعهد. أما من قطع حبل الاتصال، وعاش حياة الانفصال، ولم يعرف لذة الوصال، وانشغل عن الحقيقة بعالم الأوهام، وتعلقت همته بالصغار، فذلك حظه البقاء في النفق المظلم، ونصيبه الإبعاد والاهباط من نفق مظلم إلى نفق آخر أشد إظلاماً ولا نهاية.. فليس للبعد نهاية، كما أنه ليس للقرب نهاية.. وليس لنعيم الله حدود، كما أنه ليس لعذابه حدود.. ومن يتلفت حوله في الدنيا ويتأمل عجائب صنعة الله، وغرائب آياته، يمكن أن يتصوّر كم يمكن أن يكون مذهلاً ومدهشاً ذلك العالم الكامل.. عالم الملكوت، الذي صنعه نفس الصان،ع ووعد به أحباءه


إن عظمة الصنعة من عظمة الصانع.. وليس أعظم من الله.. فكذلك نعيمه، وكذلك عذابه.. وأهل القلوب لا تجف لهم دموع من تصور يوم الجمع.. وساعة المصير. وهم الباكون، الراجفون، الضارعون، الداعون، الراكعون، الساجدون في هذا السامر من الولائم الكاذبة على مائدة الدنيا، حيث يعلم كل من يأكل أنه سوف يموت.. و مع ذلك يقتل الغافلون بعضهم بعضا على اللقمة، ويتنازعون على شربة الماء.. أولئك هم الصارخون في الخلوات


إلهي.. ارزقنا خوفك.. ضع الموت بين أعيننا.. فلا شيء يستحق البكاء سوى الحرمان منك.. ولا حزن بحق، إلا الحزن عليك.. أنت الحق.. وأنت ما نرى من جمال حيثما تطلعت عين، أو استمعت أُذن، أوحلّق الخيال.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين






__________________________


من كتاب "أناشيد الإثم والبراءة" للدكتور مصطفى محمود


Jan 16, 2008

بعض التواضع


نحن في عصر العلم ما في ذلك شك. صواريخ.. طائرات.. أقمار صناعية.. أدمغة إليكترونية.. ونحن في عصر الجهل ما في ذلك شك. فكل هذه الوسائل و الاختراعات العلمية نستخدمها في قتل أنفسنا وفي التجسس على أنفسنا، والذي لا يقتل يقول في غرور: أنا الذي سوف أسبق إلى القمر.. أنا شعب الله المختار.. أنا على حق والآخر على باطل.. أنا أبيض.. أنا جنس آري.. أنا جنس سامي.. وبين الغرور والاستعلاء والكبرياء والعدوان يضيع العلم، و يفتضح العلم، فإذا هو تفاخر الجهلاء بما يصنعون من لعب أطفال. وأجهل الجهل أن نجهل أمراً جوهريا ًواضحاً كالنهار. أن يجهل العالِم العظيم والمخترع العبقري أنه مخلوق.. وأنه يعيش على سُلفة.. على قرض.. السنوات القليلة التي يعيشها هي قرض وسلفة بأجل محدود.. وأنه لا يملك هذا القرض ولا يستطيع أن يمد في أجله



كل (( نبضة قلب))، وكل خفقة أنفاس، وكل خاطر، وكل فكرة، وكل خطوة، هي قرض.. سُلفة.. هي قرش ينفق من الرصيد. وهو رصيد لا نملكه ولم نبذل فيه جهداً.. وإنما هو عطاء مطلق أُعطي لنا منذ لحظة الميلاد. المخترع لا يخترع وإنما يجيئه الخاطر كما ينزل ندى الفجر على الزهر. والشاعر لا يؤلف من عدم، وإنما يهبط عليه إلهام الشعر فيورق عقله كما يورق الشجر في الربيع. فهل يمتلك الشجر أزهاره أو أنها هبة الربيع؟ والعلم ذاته هبة.. الكهرباء موجودة منذ الأزل من قبل أن تكتشف بملايين السنين، وهي التي كانت تضيء السماء بالبروق والصواعق. نحن لم نخترع الكهرباء و لم نأتِ بها، فهي موجودة.. وكذلك إشعاع الراديو وطاقة الذرة ومغناطيسية الحديد. كل هذه كنوز موجودة تحت أيدينا.. وهي بعض الهبات التي وهبناها دون أن نطلبها



نحن العلماء لا ندرك هذا وإنما نقول: اخترعنا، ابتكرنا، صنعنا، ألفّنا، صنّفنا.. ثم لا ندرك ما هو أخطر وأكثر وضوحاً و بداهة.. إن العمر الذي نعيشه هو أيضا هبة لم نطلبها ولم نجتهد فيها.. الجميلة لم تجتهد لتُولد جميلة.. والقوي لم يجتهد ليُولد قوياً.. والحاد البصر لم يجتهد ليُولد حاد البصر.. ونحن لا نقوم بصيانة هذا الشيء المعقد الملغز المعجز الذي اسمه الجسد الحي.. وإنما هو الذي يقوم بصيانة نفسه بنفسه بأساليب محيرة. نحن ننفق من شيك لا نملكه.. و مع ذلك نتبجح طول الوقت.. و نقول.. نحن اخترعنا نحن صنعنا.. نحن عباقرة.. نحن عظماء.. نحن على حق و الآخرون على خطأ.. نحن بيض و هم حيوانات.. نحن جنس سامي وهم جنس منحط، ثم نقتتل على ثروات لا نملكها و لا فضل لنا فيها جميعا، ولا فضل لنا حتى في تكويننا الجسماني. نحن مجرد مخلوقات تولد و تموت و تعيش على هبة محدودة من الخالق الذي أوجدها، ولو كنا نملك أنفسنا حقيقة لما كان هناك موت. ولكن الموت هو الذي يفضح القصة.. هو الذي يكشف لنا أنّ ما كنا نملكه لم نكن نملكه.. الشيخوخة هي التي تفضح جمال الجميلة، فإذا بجمالها هبة زائرة لا حقيقة باقية.. ولكننا نحن العلماء نجهل هذه الحقيقة الأولية الشاخصة ملء العين كشمس النهار.. ولو أدركنا هذه الحقيقة البسيطة لانتهت الحروب وحُل السلام وملأت المحبة القلوب وأشرق التواضع ليجمع العالم في أسرة واحدة


لو أدركنا هذه الحقيقة لالتفتنا إلتفاتة شكر إلى الوهاب الذي وهب


هل أُخطئ إذا اعتبرت هذا العصر أظلم عصور الجاهلية؟






_______________________

من كتاب "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود



Jan 15, 2008

غنى النفس





وقفت أمام حائط مظلم لذلك الليل الطويل الذي داهمني فيه من الهمِّ وانشغال الذهن ما أثار كوامن الألم في نفسي.. وقفت حزيناً أتأمَّل عقارب الساعة التي كانت تشير إلى بداية الثلث الأوّل من ذلك الليل الطويل الذي أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي على رأي الشاعر الضَّخم امرئ القيس، ومعنى ذلك ان رحلة طويلة من العناء ستجعل معاناتي شديدةً صعبة في خِضَمّ ذلك الليل الطويل



*****


إن أحساسي بثقل خطوات ذلك الليل قد أدخلني إلى سراديب الوحشة وكهوفها، وضخَّم صورة الهمِّ الذي كان قد أحكم سياجه على ذلك الخافق النابض في صدري ورسم أمامي صورة لعملاقٍ ظلاميٍّ مخيف.. وكذلك النفس البشرية إذا استسلمت لآلامها، وخضعت لأوهامها، وغرقت في محيطات أحزانها، فإنها تحكم - حينئذٍ - على صاحبها بالسجن المؤبّد في غياهب اليأس والقنوط، ولا يمكن أن ينقذها من هذا السجن التمنِّي، ولا ينفعها التَّسَخُّطُ والتجنِّي، وإنما ينفعها دواء اليقين، الذي يكشف أمامها الحجب، فترى ساحة التفاؤل المشرقة، وراء ذلك الظلام الكثيف



*****


حينما تطاول على خافقي ألمه، وتحامل عليه حزنه، وتضخَّمتْ في عينيّ صورة ذلك الليل الطويل الثقيل، حتى ما عُدتُ أرى فيه بصيصاً من نور، رجعتُ إلى ذخيرتي وكنزي العظيم من إيماني بخالقي، ورفعتُ عينيَّ إلى السماء لأناجي الذي لا يغفل عن خلقه ولا ينام، وبدأت أتأمَّل أديمَ السماء في خضمِّ ذلك الظلام، فلاحت أمامي أضواء النجوم والكواكب تتزاحم على أديم ذلك الليل في أجمل صورة وأبهاها، وبدأت نوافذ الأمل تُفتح، وأنوارُ التفاؤل تدخل إلى عالمي خيوطاً من نور قد اتصلتْ أطرافُها بقلبي الخافق، وأطرافها الأخرى بواحات الإيمان وبساتين اليقين

*****


سبحان الله العظيم
لم أتحرّك - حينها - من موقعي في ذلك المكان، ولم أتقدم أو أتأخر عنه خطوة واحدة
قبل قليل كنتُ أرى الكون ظلاماً دامساً لا ضياء فيه، وها أنذا الآن أرى النجوم والكواكب تزدحم أمامي على أديم السماء
ما الذي جرى؟
إنها النفس البشرية، هي مصدر الظلام، ومصدرُ النور، مصدرُ السعادة، ومصدر الشقاء كن جميلاً تر الوجود جميلاً
تلك حقيقة لا ينكرها عاقل: إذا انشرح الصدر، واطمأنّت النفس، أشرق الكون، وضحكت الآفاق، وإذا ضاق الصدر، واضطربت النفس، أظلم الكون، وبكت الآفاق
ومع هذه الحقيقة حقيقة أخرى هي : إذا امتلأ القلب بالإيمان، تحقّق الاطمئنان، وانشرح الصدر، وهدأت النفس، وترقّى الإنسان في مدارج اليقين
كل ما في الدنيا صغيرٌ.. صغيرٌ أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، ولا تتحقّق السعادة للإنسان إلا إذا استشعر عظمة خالقه، لأنّه - عند ذلك - يصبح غنيَّ النفس عما سواه
ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغنى غنى النفس
غنى النفس؟
ما أعظم بيانَ محمد بن عبدالله، وما أبلغه عليه الصلاة والسلام

Jan 14, 2008

دعوة إلى الهدوء



هدوء النفس من داخلها يعني أنها مستقرة سعيدة، راضية مطمئنة، سليمةٌ من شوائب القلق والحيرة والاضطراب، ومن نيران الغيرة الجانحة والحقد والبغضاء


هدوء النفس من داخلها يؤكد أنها في حالة مصالحة تامة مع القلب والعقل، والروح والبدن، وأنها لا تشكو من سوء الظنِّ، ولا تتخبّط في ظلمات الشك، ولا تهيم في دروب الضياع


هدوء النفس من داخلها هو الذي يجعل صاحبها قادراً على المشاركة الفاعلة في بناء الحياة على وجه الكوكب الأرضي ودفع مسيرتها في طريق النجاح وهو الذي يكوِّن شخصية الإنسان السَّويَّة التي لا تعاني من إفراطٍ ولا تفريط، الشخصية التي تتفاءل من دون غفلةٍ وتَحْذَر من دون وساوس، وتعطي كلَّ حالةٍ ما تستحق من الاهتمام دون مبالغة، وتنصرف إلى
النافع المفيد من الأقوال والأعمال


هذا هو الهدوء الذي ندعو إليه، ونحثُّ أنفسنا عليه، ونعتقد أنه طريق من أهم طرق الاستقرار والنجاح، وأنه سبب من أسباب الفلاح



ولكن دعوني أسئلكم، كيف تكون النفس هادئة؟ إنها مسألة مهمة في حياة البشر، وهي تبدو شديدة الصعوبة، بعيدة التحقيق في نظر كثير من الناس، بل إنَّ بعضهم قد يظنها مستحيلة التحقيق، وإننا لنسمع من يقول: أين الهدوء ؟ أين الراحة ؟ أين الاستقرار النفسي ؟ ذلك ما لا يمكن أن يصل إليه الإنسان في الدنيا
وأقول : إن الهدوء النفسي لا يُقاس بمظاهر الحياة الدنيا ذات البريق، ولا بالمال الكثير، ولا بالجاه والمنصب، ولكنه يُقاس بالإيمان واليقين، وصدق التوجّه إلى ربّ العالمين، وسلامة الصدر من الحسد وداوعيه، والبغضاء وأسبابها، ولن يتحقق ذلك إلا بقوة صلة الإنسان بربّه عبادةً، ودعاءً ورجاءً، وامتثالاً لأوامره، وانتهاءً عن نواهيه


إن هدوء النفس يُصبح سهل التحقيق، قريب المنال حينما يصبح الإنسان مدركاً لمعنى وجوده في الأرض، وسعيه في مناكبها، مطبقاً لما أمر به الدين الحقّ من الخير وحبّه وعمله، والسعي إلى نشره بين الناس، ودعم كلِّ عملٍ أو قول أو موقفٍ لنفع الناس ومصلحتهم، لأن الإنسان - في هذه الحالة - يؤكد ويقوّي وسائل الاستقرار النفسي بالانسجام بين أقواله وأفعاله وبين دواعي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها . إنَّ كثيراً من البشر ممن نعرفهم ونعيش معهم ظنّوا أن الطريق إلى هدوء النفس إنما هو بجمع المال، والحصول على الوجاهة الاجتماعية، والشهرة والمكانة بأي وسيلةٍ ممكنة، ولكنهم - بسبب هذا الظن الخاطئ - أوغلوا في سراديب القلق والاضطراب وعدم الاستقرار وهم لا يشعرون، فلم تستقر نفوسهم، ولم تهدأ، ولم تنشرح صدورهم، حتى سمعنا قائلهم يقول: هذه الحياة نكد في نكد، وشقاء في شقاء
إنّ (هدوء النفس) لا يتحقق إلا بالإيمان بالله، وطاعته واللجوء إليه، وحسن التوكل عليه، والإحسان إلى الناس امتثالاً لأمره، وإنّ في لحظات من ذكر الله عز وجل من الراحة والهدوء ما يساوي مظاهر الدنيا وبهرجها طول الحياة.. لو فطن الغافلون
د. عبد الرحمن صالح العشماوي

Jan 13, 2008

المكابرون



المكابرون من البشر.. هم الذين يجمدون على رأي واحد، وعمل واحد، وفكرة واحدة لا يتحركون عنها قيد أُنملة مهما كانوا مخالفين للحق فيما يذهبون إليه، وهم الذين لا يُصغون إلى ناصح، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يلتفتون إلى تذكير.. إنهم المهرولون في دروب مصالحهم الخاصة، وأهوائهم ورغباتهم، غير آبهين بمصالح الناس


المكابرون.. هم الذين قست قلوبهم فما يؤثر فيها نذير ولا وعيد، ولا يُحرِّكها وعظ ولا إرشاد، يغلقون أعينهم عن رؤية الحق، ويصمّون آذانهم عن الاستماع إليه، فإذا كانوا أصحاب قوَّة ومالٍ وسلطة، أضافوا إلى المكابرة الاستعلاء والخيلاء، فعميت بصائرهم عن رؤية الحق، وذهبوا في سبيل تحقيق رغائبهم كلَّ مذهب، وسلكوا إليها كلَّ سبيل حتى وإن كان سبيلاً محظوراً، ومذهباً باطلاً


المكابرون.. لا يرون الحقائق، ولا يقدِّرون حجم المشكلات؛ لأنهم ينظرون بمنظار واحدٍ، يغطِّيه غَبَشُ الوهم الذي سيطر عليهم، فالحق عندهم باطل، والباطل حقّ، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا يمضون في دروب مكابرتهم حتى يقعوا في حفرة الخاتمة السيئة وهم عنها غافلون


ونماذج المكابرين من البشر كثيرة جداً على مدى تاريخ البشرية، ونهاياتهم معروفة بالسوء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد.. فقابيل كان مكابراً حينما تطاول على أخيه هابيل، وقد وصلت به المكابرة إلى درجة استحلال دم أخيه، فقتله.. لقد وُضعت مكابرته في صندوقٍ مظلم ليس فيه إلا ثقب صغير يرى منه الأشياء، وهل يمكن أن يرى من ذلك الثُّقْب الصغير كلَّ شيء؟ لقد دفعته مكابرته إلى تلك النهاية السيئة التي أصبح فيها من الخاسرين ومن النادمين


ابن نوح عليه السلام كان مكابراً؛ ولذلك أُغلق ذهنه، وتجمَّد شعوره ومات قلبه، فما عاد قادراً على الاستماع إلى ما يقول أبوه نوح عليه السلام (اركب معنا).. جملة واضحة من نوح عليه السلام، ولكنَّ مكابرة الابن العاصي حالت بين ذهنه وبين وضوح هذه الجمل. المكابرة جعلت ابن نوح ينظر إلى الأشياء بمنظار مادّي بحت، فهناك جبل شاهق، وهنا سفينة مصنوعة من الخشب، والعقل البشري القاصر يقول الجبل أكثر أماناً، بينما نبوّة نوح عليه السلام وإيمانه بما هو عليه من الحق يقولان: السفينة أكثر أماناً
المكابر لا يفهم هذا المعنى الروحي العميق؛ ولهذا فهو لا يتجاوب معه، ولا يفتح له آفاق ذهنه، فتكون نهايته الضياع
نوحٌ نجا بمن معه في تلك السفينة، وابن نوح كان مع الهالكين، والأقوام الذين كذَّبوا أنبياءهم وطردوهم وقتلوهم مصابون بداء المكابرة
فرعون كابر حتى غرق، وهامان كابر حتى هلك مع سيِّده، وقارون كابر حتى خسف الله به وبداره الأرض، والنمرود كابر حتى قتلته حشرة، وأبو جهل كابر حتى مرَّغ تراب بدرٍ وجهه
وهكذا هو شأن المكابرين، ولو كان المكابر ذا رأي وعقل وبصيرة، ما استمرَّ في مكابرته وأمامه هذه التجارب التاريخية والواقعية العظيمة
د. عبد الرحمن صالح العشماوي

Jan 12, 2008

أفيون هذا الزمان


تتبارى أجهزة التليفزيون والإذاعة والسينما وصفحات المجلات والجرائد على شيء واحد خطيرهو سرقة الإنسان من نفسه، شد عينيه و أذنيه وأعصابه و أحشائه ليجلس متسمراً أمام التليفزيون أو الراديو أو السينما، وقد تخدرت أعصابه تماما، كأنه أخذ بنجاً كلياً وراح يسبح بعينيه مع المسلسلة، ويكدّ ذهنه متسائلاً : من القاتل؟ ومن الهارب؟. وبين قاهر الجواسيس، وريتشارد كامبل، و-الأفيشات- العارية في المجلات، والعناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم و الليلة، ويعود الواحد إلى فراشه وهو في حالة خواء وفراغ وتوتر داخلي مجهول السبب، وحزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط. والحقيقة أنه لم يعش بالفعل، وأنّ حق الحياة سُلب منه، وأنه سُلب من نفسه، و أُخرج عنوة وألقيّ به في مغامرات عجيبة مضحكة، وتساؤلات لا تهمّه على الإطلاق. من الذي قتل شهيرة هانم! ولماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية (( الذئب في فراشي )) ؟ وأين الكنز في مسلسلة عبيد الذهب ؟ وأين الحقيقة في رواية "ارحمني يا حبيبي"، ويمر اليوم تلو اليوم.. وتظل هذه الأجهزة تقوم بما يشبه -العادة السريّة- للمتفرجين، وتغرقهم في نشوات مفتعلة إلى درجة التعب، ثم تلقي بهم إلى الفراش آخر الليل منهوكي الأحاسيس، لا يدري الواحد منهم ماذا به بالضبط.. لماذا يشعر بأنه مجوف تماماً ؟ وأنه لا يعيش أبداً، و أنه لا يقول ما يريد أن يقوله، ولا يسمع ما يريد أن يسمعه، وإنما هو يربط في أرجوحة تظل تدور به دوراناً محموماً حتى يُغمى عليه تماماً وينسى ما كان يُفكر فيه، وما كان يُريد أن يقوله، وما كان يُريد أن يسمعه، وما كان يملأ منه القلب والعقل.. ويتحول إلى -حيوان- أعجم مربوط العقل والإحساس إلى هذه الأجهزة الغريبة التي تفتعل له حياة كلها كذب في كذب


وهذه الظاهرة ظاهرة عالمية، بل هي من سمات هذا العصر المادي -الميكانيكي- الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي، وهو نوع من القتل الجميل الرائع.. تخنق فيه العقول بحبال من حرير، وتخنق الخيالات بالعطور الفوّاحة، وتخاط فيه الشفاه بجدائل من شعر بريجيت باردو، وأرسولا انرس. وكلما زادت مقاومة المتفرج لهذا الأفيون زاد المخرجون من المساحة العارية المسموح بها من صدر الممثلة ومن ساقيها، و سكبوا كمية من الدم أكثر في رواياتهم، وكمية من البترول المشتعل أكثر على أعصاب الناس. وحينما تنفجر الأعصاب في ظواهر متشابهة مثل ظاهرة الخنافس والهيبز، ورقصات الجرك المجنونة، وأدب الساخطين والغاضبين واللاعنين، فهي دائما نتائج ذلك البخار المضغوط في جماهير الشباب التي قضيّ عليها بأن تعيش أسيرة عنكبوت الإعلام، والأخطبوط ذي الألف اسم



الإذاعة و السينما و الجرائد.. ذلك السجن ذي القضبان الجميلة من الأذرع العارية في المجلات والروايات لتعيش معزولة عن معركة المصير وعن الإدلاء برأي في مأساة الحياة والموت التي تجري على مساحة العالم كل يوم. وحينما يدور الكلام عن عقار الهلوسة والماريجوانا، والحشيش، والهيروين، والكوكايين، والعصابات التي تروجه، فإنهم ينسون دائما مخدرات أكثر انتشارا و أخطر أثراً... مخدرات تدخل كل بيت من تحت عقب الباب، وتقتحم على كل واحد غرفة نومه، تزاحم إفطار الصباح إلى معدته وفنجان الشاي إلى شفتيه.. تلك هي وسائل الإعلام التي تكاتفت فيما بينها – بتعاقد غير مكتوب – على أن تقتل الناس بقتل وقتهم، و تميتهم بالضحك والإثارة والنكتة البذيئة، وتلك الكلمة الغامضة اللذيذة التي اسمها "التسلية". وتحت شعار قتل الوقت يٌُقتل الإنسان، ويُراق دم اللحظات، و يُسفك العمر، فما العمر في النهاية إلا وقت محدود.. وما الإنسان إلا فسحة زمنية عابرة إذا قُتلت لم يبقى من الإنسان أي شيء. و مسئولية كل مفكر وكاتب أن يخرج على الخط، ويتمرد على هذا الإتفاق غير المكتوب بقتل الوقت في محاولة شريفة لإحياء وقت الناس بتثقيفهم وتعليمهم والبحث عن الحق، لا عن التسلية وإشراك الناس في مأساة مصيرهم، وإعادة كل واحد إلى نفسه وقد ازداد ثراءً ووعياً لا سلبه من نفسه وسرقته من حياته، ورفع شعارات الحرية لتفسح الروح الإنسانية عن مكنونها


على وسائل الإعلام أن تتحول من أفيون إلى منبّه يفتح العيون والأحاسيس على الحقيقة، ويدعو كل قارئ إلى وليمة الرأي، ويدعو كل عقل معطل إلى مائدة الفكر، فتكون كرحلة تحشد الحماس عند كل محطة تقف عندها لا كخيمة للغاز المسيل الدموع مضروبة على الناس، أو قنابل دخان تُطلق للتعمية. إنّ حضارة الإنسان وتاريخه ومستقبله رهن كلمة صدق وصحيفة صدق وشعار صدق. فبالحق نعيش، وليس بالخبز وحده أبداً
وإذا كان السؤال المطروح الآن: ما هي صحافة اليوم؟ فهأنذا أقول لكم الجواب: أن نقول الحق.. وأن نقول الجد.. وأن نقول المفيد والنافع والصحيح.. وأن نحيي وقت القارئ لا أن نقتل وقته




_______________________


من كتاب "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود

Jan 11, 2008

العمل الذي لا ينقطع


فرقٌ كبير بين قولنا (العمل الذي لا ينقطع) وقولنا (الكلام الذي لا ينقطع)، لأن عدم انقطاع العمل دليل على العطاء، وقوّة العزيمة، وعلوّ الهمّة، وقدرة الإنسان على تحقيق معنى استخلافه في الأرض لعمارتها وإقامة الحياة فيها، وفق ما شرع الله سبحانه وتعالى، أما عدم انقطاع الكلام فهو دليل على الثرثرة، وضعف العزيمة، وقصور الهمة، وعدم القدرة
على العمل الذي يحقق معنى الاستخلاف في الأرض، ولا شك أنّ الفرق بين الأمرين كالفرق بين المشرق والمغرب إشراقاً وإظلاماً . لقد علّمنا الإسلام أن خير العمل أدومه وإن قلّ، وفي كلمة (أدومه) تأكيد على أهمية استمرار العمل وعدم انقطاعه، لأن انقطاع العمل انحرافٌ عن طريق المسؤولية، ونكوص عن القيام بالواجب، ولا يمكن لأمةٍ - مهما كثر عدد أفرادها - أن تكون ذات مكانة بين الأمم إذا انشغلت بالكلام عن العمل، كما لا يمكن لإنسان أن ينجح في حياته إذا لم يكن ذا عمل جاد ينطلق به في بناء الحياة التي لا تقوم أركانه إلا بالعمل والهمة والعزيمة


إن من صفات العاملين أنهم يُعنون بعملهم وجودته واستمراره، ويتحدثون بما يؤمنون به، وما يخدم عملهم وعطاءهم، ولذلك فليس عندهم مكان لفضول القول وزياداته التي لا تنفع، ولا تضيع أوقاتهم في كثرة الكلام الذي لا يحقِّق مصلحة، ولا ينشغلون بالجدل العقيم الذي لا يأتي بخير وإنما يعملون، ويعملون، ويجدون المتعة في عملهم، والسعادة في إنجازهم، ولا يمنعهم من العمل عدم قدرتهم على الأعمال الكبيرة، بل يعملون ما يستطيعون ويعلمون أنّ في ذلك البركة، وأنهم يُسهمون في بناء الحياة
إنّ روح العمل هي التي ترقى بفكر الإنسان وتسمو بهمته، وتسعد قلبه، وتجعله بشعر بأهميته في الحياة
العمل هو الذي يرفع من مستوى تفكير الشباب، ويريحهم من وحش الفراغ الذي يغتال أوقاتهم ونشاطهم وراحة قلوبهم


فما أحوج الأمة إلى التحول من مرحلة "الكلام الذي لا ينقطع" إلى مرحلة "العمل الذي لا ينقطع" - بتصرف


د. عبد الرحمن العشماوي


Jan 9, 2008

الحب لا .. الرحمة نعم




بالرغم من قيمة مشاعر الحب عندي وعندكم معاشر القراء و القارئات، وبالرغم من أن الحب يكاد يكون صنم هذا العصر الذي يُحرق له البخور، و يُقدم له الشباب القرابين من دمائهم، و يُقدم له الشيوخ القرابين من سمعتهم، وتُرتل له الأناشيد، ويُزمر له الزامر، و يُطبل الطبّال، وترقص الراقصة، وتعمل بلاتوهات السينما، وستوديوهات التليفزيون ، و كباريهات شارع الهرم ليل نهار لتمجيده ورفعه على العرش، ليكون المعبود الأول والمقصود الأول، والشاغل الأوحد و الهدف الأوحد، والغاية المُثلى للحياة التي بدونها لا تكون الحياة حياة


و بالرغم من أننا جميعا جُناة أو ضحايا لهذا الحب، وليس فينا إلا من أصابه جرح أو سهم أو حرق ، أو أصاب غيره بجرح أو سهم أو حرق . بالرغم من هذه الأهمية القصوى ، والصدارة المطلقة لموضوع الحب في هذا الزمان ، فإني أستأذنكم في إعادة نظر و في وقفة تأمل، و في محاولة فهم لهذا التيه الذي نتيه فيه جميعا شيوخا و شبابا و صبايا . و أسأل نفسي أولا و أسألكم : هل تعلمون لماذا يرتبط الحب دائما بالألم، و لماذا ينتهي بالدموع و خيبة الآمال ؟! دعوني أحاول الإجابة فأقول : إن الحب والرغبة قرينان .. و إنه لا يمكن أن تُحب امرأة دون أن ترغبها، و لهذا ما تلبث نسمات الحب الرفافة الحنون أن تمازج الدم و اللحم، و الجبلة البشرية، فتتحول إلى ريح و إعصار و زوبعة، حيث ينصهر اللحم والعظم في أتون من الشهوة العارمة، و اللذة الوقتية التي ما تكاد تشتعل حتى تنطفئ . هل أقول إن الحب يتضمن قسوة خفية، و عدوانا مستترا ؟ نعم هو كذلك إذا اصطبغ بالشهوة، و هو لابد أن يتلون بالشهوة بحكم البشرية، و المرأة التي تشعر أن الرجل استولى على روحها، تحاول هي الأخرى أن تنزع روحه و تستولي عليها .. و في ذلك عدوان خفي متبادل، و إن كان يأخذ شكل الحب. و المرة الوحيدة التي جاء فيها ذكر الحب في القرآن هي قصة امرأة العزيز التي شغفها فتاها ( يوسف ) حبّا. فماذا فعلت امرأة العزيز حينما تعفف يوسف الصدّيق؟ وماذا فعلت حينما دخل عليهما الزوج ؟ لقد طالبت بإيداع يوسف السجن و تعذيبه، (( قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) )) ( يوسف ) . و ماذا قالت لصاحباتها وهي تروي قصة حبها؟ (( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) )) ( يوسف ) . إن عنف حبها اقترن عندها بالقسوة والسجن والتعذيب.. و ماذا قال يوسف الصدّيق؟ (( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (33) )) ( يوسف ) . لأنه أدرك ببصيرته أن الحب سجن، و أن الشهوة قيد، إذا استسلم له الرجل أطبق على عنقه حتى الموت.. و رأى أن مكثه في السجن عدة سنوات، أرحم من الخضوع للشهوة التي هي سجن مؤبد إلى آخر الحياة


إن الحب لا يظل حبا ًصافياً رفافا ًشفافاً، و إنما ما يلبث بحكم الجبلة البشرية أن يصبح جزءاً من ثالوث هو: الحب و الجنس و القسوة، وهو ثالوث متلاحم يقترن بعضه ببعض على الدوام. ولأن قصة الحب التي خالطتها الشهوة ما تلبث أن تنتهي إلى الإشباع في دقائق، ثم بعد ذلك يأتي التعب والملل والرغبة عند الإثنين في تغيير الطبق، و تجديد الصنف لإشعال الشهوة و الفضول من جديد.. لهذا ما يلبث أن يتداعى الحب إلى شك في كل طرف من غدر الطرف الآخر.. و هذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الارتياب والتربص والقسوة والغيرة، وهكذا يتحول الحب إلى تعاسة وآلام ودموع و تجريح. والحب لا يكاد ينفك أبداً عن هذا الثالوث.. (( الحب و الجنس و القسوة )).. وهو لهذا مقضى عليه بالإحباط وخيبة الأمل، و محكوم عليه بالتقلب من الضد إلى الضد، و من النقيض إلى النقيض.. فيرتد الحب عداوة و ينقلب كراهية وتنتحر العواطف كل يوم مائة مرة.. و ذلك هو عين العذاب. و لهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساسا لزواج.. و لا يصلح لبناء البيوت، و لا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين


و من دلائل عظمة القرآن و إعجازه أنه حينما ذكر الزواج، لم يذكر الحب وإنما ذكر المودة والرحمة والسكن.. سكن النفوس بعضها إلى بعض.. وراحة النفوس بعضها إلى بعض.. وقيام الرحمة وليس الحب.. والمودة و ليس الشهوة. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً - ( الروم – 21 ) . إنها الرحمة و المودة.. مفتاح البيوت، والرحمة تحتوي على الحب بالضرورة.. و الحب لا يشتمل على الرحمة، بل يكاد بالشهوة أن ينقلب عدواناً. والرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر. والرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب، وفيها التضحية، وفيها إنكار الذات، وفيها التسامح، وفيها العطف، وفيها العفو، وفيها الكرم. وكلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية. و قليل منا هم القادرون على الرحمة.. وبين ألف حبيبة هناك واحدة يمكن أن تُرحم، و الباقي طالبات هوى و نشوة و لذة. ولذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق.. يذكرنا عند الزواج بالرحمة والمودة والسكن.. ولم يذكر كلمة واحدة عن الحب، محطماً بذلك صنم العصر ومعبوده الأول، كما حطم أصنام الكعبة من قديم. و الذين خبِروا الحياة وباشروا حلوها ومرّها، و تمرسوا بالنساء يعرفون مدى عمق و أصالة و صدق هذه الكلمات المنزلة. وليس في هذه الكلمات مصادرة للحب، أو إلغاء للشهوة، وإنما هي توكيد، وبيان بأن ممارسة الحب والشهوة بدون إطار من الرحمة والمودة والشرعية هو عبث لابد أن ينتهي إلى الإحباط. و الحيوانات تٌمارس الحب والشهوة و تتبادل الغزل. وإنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة والرحمة والرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم وهو جائع ويتعفف وهو مشتاق


والرحمة ليست ضعفا وإنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية والبهيمية والظلمة الشهوانية. الرحمة هي النور والشهوة هي النار. وأهل الرحمة هم أهل النور والصفاء والبهاء، و هم الوجهاء حقاً. و القسوة جبن والرحمة شجاعة. ولا يُؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل. ولا يشتغل بالانتقام والتنكيل إلا أهل الصغار والخسة والوضاعة. و الرحمة هي خاتم الجنة على جباه السعداء الموعودين من أهل الأرض.. تعرفهم بسيماهم و سمتهم و وضاءتهم. و علامة الرحيم هي الهدوء والسكينة والسماحة، ورحابة الصدر، والحلم والوداعة والصبر والتريث، ومراجعة النفس قبل الاندفاع في ردود الأفعال، وعدم التهالك على الحظوظ العاجلة والمنافع الشخصية، والتنزه عن الغل وضبط الشهوة، و طول التفكير وحب الصمت والائتناس بالخلوة وعدم الوحشة من التوحد، لأن الرحيم له من داخله نور يؤنسه، و لأنه في حوار دائم مع الحق، وفي بسطة دائمة مع الخلق. والرحماء قليلون، وهم أركان الدنيا وأوتادها التي يحفظ بها الله الأرض و من عليها. ولا تقوم القيامة إلا حينما تنفذ الرحمة من القلوب، ويتفشى الغلّ، وتسود المادية الغليظة، وتنفرد الشهوات بمصير الناس، فينهار بنيان الأرض وتتهدم هياكلها من القواعد


اللهم إني أسألك رحمة


اللهم إني أسألك مودة تدوم


اللهم إني أسألك سكناً عطوفاً و قلباً طيباً


اللهم لا رحمة إلا بك و منك و إليك




_______________________

من كتاب " عصر القرود " للدكتور مصطفى محمود

احترام الجسد



مأساة الإنسان أنه لا يوجد توازٍ بين نفسه وجسمه، فالحادثة التي تقطع ساقه لا تقطع رغبته في الجري، والجراحة التي تستأصل غدته التناسلية لا تستأصل رغبته الجنسية .. و حينما يضعف بصره بالشيخوخة لا تضعف رغبته في الرؤية ، و عندما يضعف بدنه لا تموت شهوته .. و إنما العكس .. تسقط الأسنان و تزداد الرغبة في المضغ .. و تبدأ المهزلة . و من لم يؤدب شبابه لن يستطيع أن يؤدب شيخوخته . و من لم يتمرس على كبح نفسه صبيا، لن يقدر على ذلك كهلاً .. و سوف تتحول لذته فتصبح عين مهانته إذا طال به الأجل .. و لهذا نرى الله يطيل آجال بعض المسرفين ليكونوا مهزلة عصورهم ، و ليصبحوا حكاية و نكتة تتندر بها الأجيال للاعتبار



حينما يتحول الفجار والفساق والعتاة فيصبح الواحد منهم طفلاً يتبول على نفسه، و كسيحاً يحبو، ومعوقا يفأفئ ويتهته ، وتسقط أسنانه التي سبق أن نبتت بالألم فينخرها السوس لتقع مرة أخرى بالألم ، و تعود أطرافه التي درجت على مشاية فتدرج على عكازين و يتحول الوجيه الذي كان مقصوداً من الكل إلى عالة و شيئا ثقيلا و كومة من القمامة يتهرب منها الكل .. ثم لا يعود يزوره أحد .. ثم يموت فلا يشيعه مخلوق .. و لا تبكيه عين .. و لا تفتقده أذن .. و لا يذكره إنسان .. و كأنه دابة نفقت في حفرة .. فذلك هو التنكيس .. الذي ذكره القرآن في سورة يس: الآية 86 (( و من نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون )). و السر في هذه المأساة .. أن النفس لا تشيخ و لا تهرم .. و لا تجري عليها طوارئ الزمان التي تجري على الجسد .. فهي من جوهر آخر غير مادة الجسد الكثيفة المركبة التي يطرأ عليها التحلل و الفساد . فالسائق مايزال محتفظا بجميع لياقاته، وسيظل شابا على الدوام، و إن كانت العربة -الشيفروليه- الفاخرة قد صدأت آلاتها، و أصابها التلف، و عجزت عن الحركة .. و لم تعد للسائق حيلة سوى أن يسحبها .. و تلك هي حادثة الشيخوخة .. نفس مازالت بكامل رغباتها و شهواتها .. و لكن لا حيلة لها مع جسد مشلول لم يعد يطاوعها .. لا حيلة لها سوى أن تسحبه و تجره على كرسي متحرك . يقول أهل الله في شطحاتهم الصوفية الجميلة : إزالة التعلقات بعد فناء الآلات من المحالات . فهم قد فهموا شيئا أكثر من مجرد أن الأجسام آلات لتنفيذ رغبات النفس ، بل هي أشبه بالسلالم يمكن أن يستخدمها صاحبها في الصعود أو في الهبوط .. فالمعدة عضو أكل و لكنها أيضا عضو صيام إذا تسلقت عليها .. و بالمثل الجهاز التناسلي عضو جماع ، و لكنه أيضا عضو عفة إذا حكمته .. بل إنه لا معنى للعفة بدون وجود نزوع شهواني للأعضاء تقابله بضبط إرادي من ناحية عقلك . و تلك هي الفرصة التي أسموها .. إزالة التعلقات، و سوف تضيع هذه الفرصة بالشيخوخة و انتهاء الأجل .. فلا أمل في إزالة التعلقات بعد فناء الآلات، فذلك من المحالات . و بذلك فهموا علاقة النفس بالجسد فهماً جدلياً .. فالنفس تؤدب الجسد ، و لكن الجسد أيضا يؤدب النفس .. و عملية الردع عملية متبادلة بين الإثنين . الفرامل المادية مطلوبة لتربية الفرامل السلوكية و العكس صحيح .. و الأجل محدود .. يمكن أن يكون عملية إنفاق و تبديد .. أو عملية بناء و تشييد .. و بناء الشخصية النفسية و تعديلها و الارتقاء بها أو الانحطاط بها محتاج إلى الأسمنت الجسدي و الخرسانة المسلحة من الخلايا .. الروح محتاجة إلى الطين .. و الطين محتاج للروح . والنمو النفسي و الروحي و التقدم المعنوي و التطهر الخلقي محتاج لهيكل مادي يعرج عليه صعدا

و بهذا المعنى ينظر الصوفيون إلى الجسد بتقديس و احترام – و لا يحتقرونه – فهو عندهم محراب النفس . فالنور في النهاية يخرج من سلك متوهج ، و نور الشمس يخرج من اندماج ذرات الهيدروجين ، و نور الغاز يخرج من احتراق الزيت، و نور فضائلنا يخرج من احتراق أجسادنا . فالجسم قنديل يمكن أن يشع فضيلة، و النظر إلى الجسد باعتباره نجس و خطيئة نظرة غير إسلامية بل هو أمر منافٍ للإسلام .. فالإسلام شمولي و جدلي ينظر إلى الإنسان باعتباره جسد و نفس و روح معاً .. بل إن الإنسان هو تفاعل الثلاثة معاً في وقت واحد .. و جسد الإنسان يمكن أن يكون هو عين روحه في لحظة .. كما أن روحه يمكن أن تكون عين جسده في لحظة أخرى.. و المسألة تتوقف على النفس هل هي صاعدة على سلم الهيكل أو هابطة عليه . و الجسد عند الصوفية هو مجرد رسم مطلسم للروح و رمز رامز لأسرارها .. و هو معراجها الذي تصعد عليه للحضرة الإلهية

والجسم والروح ..كاللوح والقلم، وكالمرآة والوجه، وكالشمس ونورها

وفي أسرار الروح لا ينتهي الكلام

بتصرف



___________________________

من كتاب " الإسلام .. ما هو..؟ " للدكتور مصطفى محمود




Jan 8, 2008

السلطان الحقيقي





قل لي فيم تفكر.. أقلْ لك من أنت


هل أنت مشغول بجمع المال، وامتلاك العقارات، وتكديس الأسهم و السندات؟ أم مشغول بالتسلق على المناصب، وجمع السلطات، والتحرك في موكب من الخدم و الحشم و السكرتيرات؟ أم أن كل همك الحريم، و موائد المتع، و لذات الحواس و كل غايتك أن تكون لك القوة والسطوة والغنى و المسرات.. إذا كان هذا همك فأنت مملوك وعبد، مملوك لأطماعك و شهواتك، وعبد لرغباتك التي لا شبع لها ولا نهاية. فالمعنى الوحيد للسيادة هو أن تكون سيدا على نفسك أولاً قبل أن تحاول أن تسود غيرك، أن تكون ملكا ًعلى مملكة نفسك، أن تتحرر من أغلال طمعك و تقبض على زمام شهوتك، و القابض على زمام شهوته، المتحرر من طمعه و نزواته و أهوائه لا يكون خياله مستعمرة يحتلها الحريم والكأس و الطاس، والفدادين والأطيان والعمارات، و المناصب و السكرتيرات




الإنسان الحقيقي لا يفكر في الدنيا التي يرتمي عليها طغمة الناس. وهو لا يمكن أن يصبح سيداً بأن يكون مملوكا، و لا يبلغ سيادة عن طريق عبودية، ولا ينحني كما ينحني الدهماء، ويسيل لعابه أمام لقمة أو ساق عريان أو منصب شاغر. فهذه سكة النازل لا سكة الطالع، و هؤلاء سكان البدروم حتى و لو كانت أسماؤهم بشوات و بكوات، و حتى و لو كانت ألقابهم، أصحاب العزة والسعادة.. فالعزة الحقيقية هي عزة النفس عن التدني و الطلب. وممكن أن تكون رجلا بسيطا، لا بك، و لا باشا، ولا صاحب شأن، ولكن مع ذلك سيداً حقيقيا، فيك عزة الملوك، وجلال السلاطين، لأنك استطعت أن تسود مملكة نفسك.. وساعتها سوف يعطيك الله السلطان على الناس، و يمنحك صولجان المحبة على كل القلوب. انظر إلى غاندي العريان.. البسيط.. كم بلغ سلطانه؟ كان يُهدد بالصوم، فيجتمع مجلس العموم البريطاني من الخوف و كأن قنبلة زمنية ستقع على لندن. و كان يجمع أربعمائة مليون هندي على كلمة يقولها. و كأنها السحر. هذا هو السلطان الحقيقي.. هذا هو الملك الحقيقي الذي لا يزول. الحريم والقصور والكنوز والثروات والعمارات مصيرها إلى زوال.. لن تأخذها معك إلى تابوتك.. سوف تنتقل إلى الورثة.. ثم إلى ورثة آخرين، ثم تصبح خرائب مع الزمن. أما محبة الملايين فسوف تصاحبك في تابوتك و تظل علما على اسمك مدى الدهر. كما تفوح الذكرى عطرة تضوع بالشذا كلما جاء اسم غاندي على الألسن




الغنى الحقيقي أن تستغني.. والملكية الحقيقية ألا يملكك أحد، و ألا تستولي عليك رغبة، و ألا تسوقك نزوة. والسلطنة الحقيقية أن تكسب قيراط محبة في دولة القلوب كل يوم.. تذكر أن الذين يملكون الأرض تملكهم، والذين يملكون الملايين، تسخرهم الملايين، ثم تجعل منهم عبيدا لتكثيرها، ثم تقتلهم بالضغط و الذبحة و القلق، ثم لا يأخذون معهم مليماً.. صدقني هؤلاء هم الفقراء حقا




______________________

من كتاب "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود


Jan 7, 2008

الإنسان .. ذلك اللغز




عجيبٌ أمر هذا الإنسان

رقيقٌ، حنونٌ، عطوفٌ، رؤوفٌ جداً.. في أمريكا يتوقف المرور لأن قطة خطََر لها أن تتمخطر ببطء عبر الطريق.. و يتجمع الناس حول كلب مكسور الساق وقع من الدور السابع.. و تتسابق البلاغات إلى بوليس النجدة وإلى جمعية الرأفة بالحيوان و إلى جمعية الكلاب الضالة، ويأتي طابور من العربات، و يتحرك الموكب حاملا الكلب الجريح إلى مستشفى الكلاب، و يظهر النبأ في الصفحة الأولى من جرائد الإقليم، و يتقاطر الزوار على الكلب الراقد في جبيرة من الجبس، و ترفع جمعية الرأفة بالحيوان قضية على صاحب الكلب، و يترافع محامون و وكلاء نيابة، و يقرر القاضي غرامة كذا ألف دولار على الجاني المجرم الذي أهمل رعاية كلبه


هذا الإنسان الرقيق الحنون العطوف الذي تحرك وجدانه و تحركت صحافته لكلب جريح.. هو نفسه وهو عينه الذي يلقي قنبلة ذرية على هيروشيما و ناجازاكي.. يقتل فيها و يجرح و يشوه سبعة ملايين ضحية آدمية بشرية.. ما يزال بعضها يجرجر حياة بائسة مفعمة بآلام سرطان العظام والمثانة والكلة والجلد.. بينما هو الإنسان القاتل المحترف ما يزال مستمراً في حرفته الرهيبة، و قد تطورت صناعة الموت على يديه من قنابل ذرية إلى قنابل هيدروجينية إلى قنابل نيوترونية إلى قنابل ذرية نظيفة.. و تأملوا معي كلمة (( نظيفة )) أي تقتل قتلا نظيفاً دون أن تترك مخلفات إشعاعية. و مصنع الموت أو البنتاجون ينفق على صناعة الموت أضعاف أضعاف ما ينفق في مشاريع التنمية، وأضعاف أضعاف ما ينفق على الحياة و العلاج و البناء و التعمير


لا تسرعوا و تتهموا هذا الإنسان في عقله.. فهذا الإنسان لا يمكن اتهامه بنقصان العقل؛ فهو قد عبر الفضاء، ومشى على القمر، وأرسل سفناً إلى المريخ و الزهرة و المشتري، وأرسل أقماراً صناعية إلى الشمس.. وهو قد ابتكر أجهزة يتسمّع بها إلى همس الأمواج على أطراف المجرّة.. وهو صاحب تاريخ حافل بالفكر والفلسفة من سقراط إلى برتراند رسل، فهو إذن ليس ناقص العقل!.. إذن كيف نفهمه، و هو ينتقل من النقيض إلى النقيض في لحظة.. وهو يتحول من الحنان إلى الوحشية، ومن العقل إلى الجنون، ومن الشهامة إلى الغدر، ومن العبقرية إلى الحمق..؟ من هو ذلك الإنسان اللغز؟.. الزوجة التي تخون زوجها القوي المكتمل مع رجل ضعيف عاجز جنسياً.. والرجل الذي يمزّق زوجته بسكين و يقول باكيا.. قتلتها لأني أحبها.. والأوروبي المتمدن تأتيه المدنية بالعلم و وسائل الترف والراحة والنظافة والعناية الطبية والحياة الحافلة بالمشوقات والمشهيات والسياحات الممتعة بطول الأرض وعرضها فيقابل هذه النعمة بالعكوف على المخدرات والإرهاب والعنف والانتحار.. ومريض القُرحة يشرب السجائر و في التدخين هلاكه.. والطبيب العليم الخبير يشكو الكبد و يشرب الخمر و فيها دماره.. هو ليس نقص علم و لا نقص عقل، فهو طبيب يعرف ما هي الخمر و ماذا تفعل في البدن.. و تراه في عيادته ينصح مرضاه بعدم تعاطي الخمور.. ثم تراه يشربها في بيته، و الكثرة على هذه الحال


الغالبية بهذه الصورة من التناقض والتقلب وعدم الاتزان واضطراب المزاج واضطراب الأفعال والتباين بين الأقوال و الأعمال.. والخلاف بين الظواهر و البواطن والمفارقة بين السر و العلن والتلوّن والتغيّر والتبدّل.. والأقلية القليلة.. و ربما أقل من القليل.. هم أهل الكمال.. الأطهار في السر و العلن.. الأبرار يداً و قلباً و ضميراً.. أهل الثبات الذين لا يتغيرون، وإن تغيرت حولهم الدنيا.. ولا يتبدلون ولو أغرتهم الغوايات، وجاذبتهم المغريات. الواحد منهم حضارة، لو عثرت عليه في الأدغال و بين البدائيين فهو حضارة، وهو قد سبق الذين مشوا على القمر.. فهو صاحب المشوار الأطول والأشق، فهو قاهر نفسه.. وهو مؤشر التقدم الحقيقي.. بين الكثرة الكثيرة التي تفعل ما لا تقول، و تقول ما لا تفعل، وهو الواحد الفرد المميز الذي له سحنة نفسية بين أغلبية غالبة - هي على ما قلنا من الاضطراب - ليس لها سحنة و لا وجه.. و إنما هي تتقلب مع الأحوال و الأوقات و المصالح، و تتبدل مع اللحظات، و تنتقل من النقيض إلى النقيض، و من الموقف إلى ضدّه. و هؤلاء هم أهل الهوى.. و أغلب الناس أهل الهوى.. ولا يقر لأهل الهوى قرار، لأن الهوى لا يقر له قرار.. وهم مؤشر تخلف وإن لبسوا الحرير، و تقنعوا بالشهادات، و تفاخروا بالتكنولوجيا و الاختراعات


فالسؤال بالنسبة للإنسان ليس ماذا جمع من مال، و لا ماذا حصّل من علم، و لا ماذا شيّد، و لا ماذا اخترع.. و لكن ماذا صنع بنفسه أولا.. ذلك هو الإنجاز الأول.. و هو الأساس الذي سوف يبني عليه كل ما يأتي بعده.. وهو الأساس الذي يكون به تقييم كل شيء.. وهو ما نسميه بالأخلاق. يقول الله تعالى لمحمد عليه الصلاة و السلام في القرآن:(وإنك لعلى خلقٍ عظيم)، لم يقل له (( و إنك لعلى علم عظيم )). فقد رأينا العلم في أمريكا و أوروبا و روسيا و ماذا يصنع بدون خلق.. ورأينا أن الصعود الصعب هو أن تصعد على نفسك و تملك ناصيتها و ليس أن تصعد إلى القمر و تمشي عليه. و لهذا تحدّث القرآن عن المؤشر الحقيقي والأزلي للعظمة الإنسانية، وهو العظمة الخُلقية.. أما الأمجاد الأخرى فهي أمجاد قابلة للتقليد، ألم تقلد اليابان التكنولوجية الأمريكية في سنوات قليلة و تتفوق عليها و تزاحمها في جميع الأسواق. فمن استطاع أن يقلد النبي في كمالاته الخُلقية.. و من استطاع أن يفوقه..؟؟ ذلك هو المعراج المستحيل على عامة الناس و جماهيرهم.. لا يصعده إلا نبي.. و لا يقوى على السير فيه إلا أفراد هم الصدّيقون و الشهداء و الأبرار و الأولياء.. وهم معدودون في كل أمة وفي كل عصر، بهم تقوم أركان الدنيا، و يحفظ الله ببركتهم الأرض، وبانقطاعهم.. يهدم الله عمارة الكون.. و يقيم القيامة.. حينما لا تبقى إلا حثالة لا تستحق أن تطلع عليها شمس



__________________________

من كتاب "هل هو عصر الجنون" للدكتور مصطفى محمود

Jan 6, 2008

النجاح ليس في قائمة المقهى



كيف يمكننا أن ننجح في الحياة ونقوم بالإنجازات المختلفة في مجال تعليمنا وأعمالنا وتفكيرنا ؟؟ أسئلة حائرة تؤرّق الواقع الشبابي و تدور في خلده بشكل مستمر ، ونحن في هذا المقال لن يكون دورنا بأن نقدّم إجابة لهذه التساؤلات ، لأن الإجابة عليها يحتاج إلى مزيد من المساحة ، ولكننا سنتحدث عن السبيل للوصول للنجاح بشكل عام بما يتناسب وهذا المختصر ، أي كيف نٌدخل ونفكر في مسيرة النجاح والإنجاز؟ ، لكي يكون مدخلنا صحيحاً وسليماً. ولعل أهمية طرح هذا الموضوع يكمن في الظاهرة المتنامية للدورات التي تبشر بتنمية بشرية وإعطاء كفاءة متجددة للأفراد ، ووعود بالنجاح والإنجاز ، في مجتمعنا ، وتزايد إقبال الناس عليها ، ولا شك أن هذه الرؤى ليست تنفيراً ، ولا هي حالة دعائية لتلك المراكز والدورات ، بل لكي ندخل أي مضمار من مضامير هذه الدورات بصورة متوازنة ، لكي تؤثر أثراً إيجابياً لا سلبياً


النجاح لا يقدّم على طبق من ذهب.. فهنالك فرق بين النجاح الحقيقي وبين الشعور بالنجاح ، فيمكن لأي إنسان أن يشتري شعوراً بالنجاح في أي قائمة هنا أو هناك ، و لعل البعض يعتقد أنه يحصل عليه في قائمة المقهى أو مطاعم الوجبات السريعة ، إلا أن النجاح الحقيقي شيء آخر ، فهو يحتاج إلى بذل جهد وتراكم في العمل والخبرة و المعرفة. إن النجاح متاح لكافة الناس ولا شك أن أي واحد منّا يمكنه أن ينجح ويقدّم إنجازات عظيمة ، إلا أن النجاح لا يقدّم إلى أحد على طبق من ذهب ، وإن حصل أحد منّا على نجاح ما، في مكانٍ ما بسهولة ، فهو هبة وعطية، وليس نجاحاً وانجازاً يُحسب لشخصيته، هذه حقيقة مهمة ينبغي أن نتعرّف عليها، لكي نكون على استعداد لبدء طريق النجاح الحقيقي



لا تنس مصدر النجاح.. فمعرفة مصدر النجاح الحقيقي يجعل الإنسان متصلاً بذلك المصدر ليستمد منه القوّة، ويستعين به في مسيرة النجاح ، فأنت من يقوم بالتغيير، وأنت من يحقق الإنجاز، كل هذا صحيح، إلا أنك لست مصدر ذلك النجاح والإنجاز ، وواهمٌ من يقول عكس ذلك ، فإن النجاح من الله تعالى، فهو الذي يغيّر واقع الإنسان وبفضله تهطل البركات وما نقوم به نحن إنما هو تهيئة القابلية، والعمل بالأسباب، لكي نستوعب تلك القوّة الربانيّة عبر التوفيق في أعمالنا. أهمية معرفة هذه الحقيقة هي لكي لا ننس فضل الله علينا ولكي نتصل به بالدعاء والتوكل والإستعانة بشكل دائم ، ولكي لا نضخّم ذواتنا إلى حد العبادة ، فبعض الفرق والمناهج بالغت في (الأنا) حتى أصبحت تؤلّه الذات، حتى يشعر الإنسان كأنه هو المتصرّف الأول والأخير في نفسه وفي الكون من حوله ، ليأخذ شعوراً وهمياً بالإنجاز وما هو بإنجاز ، وما هذا إلاّ انحراف عن النهج القويم



يسألونك عن النجاح ؟.. هل أن كل ما يحقّقه الإنسان يمكننا أن نسميه نجاحاً ؟ ، بالطبع ليس الناجح هو كل من ينجز شيئاً بغض النظر عن ماهية ذلك الشيء ، وإلاّ كان السارق المحترف ناجحاً ، فالبعض ينبهر بما ينجز أو بالأشخاص ذوي الشهرة الإجتماعية أو السياسية أو العلمية ، ويقيس بعد ذلك أعمال كل الناس من خلال منجزاتهم ، بينما ينبغي أن نحقق في مفهوم النجاح الحقيقي و المطلوب ، كأن ينجح الإنسان في الخير، وأن ينجز شيئاً بالوسائل السليمة ومن دون التخلّي عن القيم الربانية التي يؤمن بها ، فلذلك أنت عندما تحاول أن تنجز ويكون العائق لبلوغك لذلك الإنجاز هو عدم تخليك عن القيم ، فأنت هنا قد حققت نجاحاً ، حتى لو لم يعتبره الناس كذلك ، لأنك حافظت على قيمك ، وهذا يكفي في زمن يُراد لك أن تُسلب كل قيمة إلهية



النجاح الأكبر .. قد تُؤسس شركة ضخمة أو تمتلك عشر شهادات عليا ، إلا أنك لم تربِ نفسك تربية صحيحة ، فأنت سيد الفاشلين ، لأن الإنسان وتربيته هو المحور وهو الأساس، فما الذي ستربحه إذا خسرت نفسك ؟، فالنجاح لا يُقاس بالمقاييس المادية وحسب ، وإنما النجاح الأكبر أن يصيغ الإنسان شخصيته، ويربي نفسه، ويكون إشعاعاً للخير والفضيلة ، ولن يكون ذلك إلا من خلال مصدر الفضيلة، ومصدر الخير، وهو الله تعالى، من خلال بصائر القرآن الكريم وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام


بعد معرفتك هذه الأساسيات المهمة
يمكنك أن تنطلق في مشروعك.. وتشق طريق النجاح