May 19, 2008

هل هناك شيء إسمه.. وقت الفراغ؟




نستطيع أن نقول: لا، لأنّ الإنسان حينما يفرغ من عمل ما، فإنّه سينشغل بعمل آخر، ربّما أقلّ أهمّية، وربّما أكثر أهمّية، حتى اللعب، هو لون من ألوان العمل غير المنتج، وقد يكون منتجاً في مردوده النفسيّ على اللاّعب. وعلى أيّة حال، فإنّ الإسلام ـ كما مرّ ـ يعطي للإنسان الساعة التي يروّح فيها عن نفسه وعن أهله ويمارس فيها ملذّاته، بل يعطي لهذه الساعة قيمة وأهمّية كبيرة لأ نّها المعينة على ساعات العمل والعبادة. لكنّ الفراغ الذي نتحدّث عنه هو ليس هذا، إنّما هو الوقت الضائع المضيّع، أي الوقت الذي يتهاون فيه الشاب أو الشابّة في مسؤولياتهما الحياتية والرسالية، فيعشيان حالة من الوقت العابث السلبي العاطل غير النافع. وغالباً ما يقع الفراغ حينما نبعثر أوقاتنا ونتركها رهن الفوضى، وعندما نجهل قيمة الوقت في أنّه يمكن أن يكون فرصة لطلب العلم، أو فرصة لتعلّم مهارة جديدة، أو فرصة لتصحيح مفاهيم خاطئة، أو فرصة لنفع عباد الله، أو فرصة لقضاء حاجة مؤمن، أو فرصة للاطِّلاع على قضايا عالمنا الاسلاميّ، أو فرصة لتنمية ما اكتسبناه من معارف سابقة، أو فرصة للتعرّف على أخ في الله جديد، أو فرصة لتوطيد علاقة قديمة مع صديق، وهكذا.. حتّى لقد اعتُبر الوقت غير المستثمر خارج نطاق العمر، ذلك أنّ العمر الحقيقي هو عمر المزرعة الذي ورد في الحديث، فهل عاقل من لديه أرض واسعة وصالحة للزراعة ويتركها بوراً ؟! يقول أحد العلماء: إنّني أقرأ كثيراً، فإذا ما تعبت من القراءة فإنّني أستريح بالقراءة، وقد فسّر ذلك بقوله: إنّني أميل لقراءة الكتب العلميّة الدسمة، لكنّني حين أتعب من قراءتها ألتجأ إلى قراءة الكتب الأدبية أو التأريخية لأتخفّف من تعب القراءة العلمية. أنظر إلى من حولك.. ألا تحترم ذاك الذي يقف في انتظار دوره أمام دكّان، أو بانتظار الحافلة، أو عند الطبيب وتراه حاملاً كتابه يقرأ فيه ؟! ألا تحترم من يستذكر في أثناء طريقه قصيدة حفظها، أو سورة من القرآن لا يريد أن ينساها، أو من يردّد بعض الأذكار التي تزيد من ارتباطه بالله سبحانه وتعالى ؟! ألا تُكنّ الاحترام والتقدير لمن يحمل في جيبه دفتراً صغيراً يدوّن فيه حكمة قرأها في صحيفة، أو معلومة حصل عليها بالصدفة، أو رقماً مهمّاً عثر عليه هنا أو هناك يعينه في الاستشهاد به والتدليل على ما يقوله، أو يسجِّل فكرة طرأت على ذهنه ويحاذر أن تفوته أو ينساها ؟ إنّ أجهزة الهاتف التي تُلحق بها مسجّلة لاستلام الرسائل الصوتية، ومفكّرات الحائط التي تُوضع عند أبواب بعض المنازل، يُسجّل عليها الزائر ملاحظاته حينما لا يجد صاحب المنزل، دليل على اهتمام صاحبها بما يجري في غيابه. وإنّ الذي يطالع الصحف يومياً ويتابع نشرات الأخبار يومياً، ويزور المواقع على شبكة المعلومات (الانترنيت) أو ذاك ليتعرّف على ما يجري من حوله في عالم متغيّر، هو إنسان حريص على أن لا يلقي وقته كورقة مهملة في سلّة المهملات، إنّه يشعر بالانقطاع عن العالم إذا لم يواكب حركة العالم، ولو حصل وانقطعت متابعته، لشعر بالغربة أو بالوحشة أو بفقدان شيء ثمين


لقد اكتشف أبناء إحدى القرى الأميركية إمرأة اُمّية تعلّمت القراءة والكتابة في وقت متأخر وبدون معلِّم.. وحينما سُئلت قالت: لقد شعرت بوقت ثمين جدّاً ضاع منِّي فحاولت تعويضه، ولذا كنت أسترق السمع والنظر إلى ابنتي الصغيرة وكنت ألتهم معها كلّ دروسها ! لذا ينبغي أن نسقط العبارات التالية من قاموس حياتنا : لقد فاتني القطار!.. لم يعد في العمر متسع.. لقد شخت وتعذّر القيام بذلك!.. ما فائدة العمل الآن!.. لقد ضاعت فرص كثيرة!.. إنّ الحظّ يعاكسني دائماً! لقد سبقني إلى ذلك كثيرون!.. لم يعد لي مكان!.. جرّبت وفشلت لا داعي لتكرار التجربة! .. إلخ . علينا أن نستبدل تلك العبارات بالعبارة التالية : هناك دائماً وقت للعمل قبل الموت. أمّا مقولة «تعويض الوقت الضائع» فهي غير دقيقة، فالوقت الضائع لا يعوّض ، والأداء غير القضاء، والتمنّي أن يعود الشباب بعدما ترحل أيّامه أمنية كاذبة يردّدها الشعراء، ولا إمكانية لتحققها في الواقع، وما فات مات، ولكن يمكن للشاب أو الشابّة أن يتفاديا المزيد من التقصير، والمزيد من التضييع، بأن يعضّا بأسنانهما على المتبقِّي من الأوقات فلا يدعانها نهبَ اللهو والعبث والاسترخاء العاطل


لقد ثبت بالتجربة أنّ الكسل والبطالة والفراغ عوامل داعية للانحراف والفساد. وينبغي بعد ذلك أن نفرِّق بين فراغ لا فائدة فيه، وتفرّغ للمراجعة والنقد الذاتي والخلوة مع النفس، أو أخذ إجازة لتجديد النشاط، فهذا من العمل وليس من الفراغ، وهو شيء محبّب ومطلوب؛ لأ نّه من الأوقات التي تدرّ على الأوقات الاُخرى خيراً كثيراً

No comments: