ما سبب اهتمام الفرد برأي الناس؟ وما سبب محاولته كسب رضاهم؟ إن بعض الباحثين يعتبر السبب "السلطة".. سلطة من بيدهم الثواب والعقاب كالوالدين، أو المشاركة الوجدانية التي تجمع الأفراد في حالات الأفراح والأحزان، ولذا (يجب المرء أن يتأكد عادة إن كان مرضياً عنه أم لا.. أي إن كانت لديه المؤهلات الإنسجامية أم لا.. فإن لم يكن حائزاً على الرضا - الذي هو أهم المؤهلات الإنسجامية – كان مهدداً بالعقاب أو بالفصل أو بالنبذ). والعامل المهم في أن يندفع الإنسان في سبيل الحصول على رضا الناس، كما يبدو، هو حبه لذاته.. فإنما يهتم بآرائهم عنه، لأن رضاهم يعني حصوله على المكانة اللائقة والاحترام لشخصيته.. والانسان، كما تراه الفيلسوفة الفرنسية "سيمون دي بوفوار"، لا يمكن أن ينفصل عن الناس، لأن (الحياة علاقة بالعالم، وأن الفرد يحدد نفسه بما يصطفيه لنفسه.. وينبغي لنا أن نلتفت صوب العالم لنجد الحلول للأسئلة التي تشغلنا.. ). كما يُنوّه "انتوني ستور" بأن الناس بحاجة إلى العلاقات مع بعضهم البعض، وعلى قدم المساواة، من أجل أن يدركوا إمكاناتهم الكاملة.. فالمرآة التي يرى فيها الفرد شخصيته، هي المجتمع، وحريٌّ بالفرد أن يرجع إلى تلك المرآة لتعكس له نفسه.. والصفات الكريمة إنما تظهر على وجه تلك المرآة نتيجة الإنسجام والتوافق مع الناس.. أما "هيلين شاكتر"، مؤلفة كتاب (كيف تتكامل الشخصية)، فإنها ترى أن رضى الناس راحة للنفس.. وسعادة، والتجانس معهم حاجة اجتماعية.. والإنسان، والحيوان أيضاً، يوصف بأنه ذكي: (إذا كان قادرا على تكييف نفسه لمحيطه)، فالقدرة على مسايرة الآخرين، وجه من وجوه الذكاء الاجتماعي، وهذه المسايرة أو معاملة الناس بالحسنى، و ليست بموهبة يرثها البعض، ويُحرم منها البعض الآخر، بل هي ضرب من المهارة يكتسبها الإنسان بالتدريب والممارسة، كلعب الكرة، وركوب الدراجة، والسباحة، وغير ذلك من المهارات.. وقد أصبح من البديهي في هذا العصر: ( أن المهارات تحتاج إلى معلومات أساسية وكثير من التدريب).. ومتى أضطلع الإنسان من آراء المجربين والخبراء، اتضح له الطريق، وحصل على تلك المعلومات الأساسية، وظهر له أن ليس هناك شخص مكروه، لأن الله تعالى قد خلقه مكروهاً، أو آخر محبوب، لأنه وُلد ووُلد معه حب الناس له، دونما جهد أو تدريب.. حب الناسيوجه كما يذكر البروفيسور "هبنر" نصيحته إلى الراغب في الحصول على حب الناس وكسبهم قائلاً : - افترض أن الناس يحبونك، واتصل بهم وأنت مشبع بهذه الروح.. فلئن افترضت العكس، وحاولت الابتعاد عنهم، ظنوا أنك لا تريد أن يقترب منك أحد، وأنك تفضل العزلة والخلو مع نفسك، لذا فإنهم سيتركونك ونفسك. - حينما تحيي أحداً، لا تحييه بلسانك فقط، بل أضف إلى تحيتك إبتسامة، وإشارة يد، أو مصافحة، فلئن شعرت بأنك تبالغ بالمجاملة وتتظاهر بالود، فاستمر على المبالغة بالمجاملة، والتظاهر بالود إلى أن تصبح هذه الصفات طبيعية لا تكلف فيها ولا مبالغة. -اعترف بخطئك وسوء تصرفك، حينما يحصل منك سوء تصرف، وليس القصد من وراء هذا أن تجعل من نفسك اضحوكة وموضع سخرية، ولكن ليكن لديك من سعة الصدر وحب المرح ما يسمح لأصحابك بالضحك من سوء التصرف الذي وقعت فيه.. إن ذلك يجعلهم يشعرون بسمو المكانة والارتياح، ويجعل شخصيتك مرنة مرحة. - فكر بالشخص الآخر، واهتم بما يطيب له من أحاديث، فسيعتبرك ذا شخصية مهمة ومحبوبة، لأن ((الشخص الذي يفتقد الاهتمام بالناس، لا يُؤمل أن يبني علاقات طيبة في مجتمعه)). وأن ((التطور الحر للشخصية يستبعد الاهتمام بالذات)). بالأضافة إلى أن الالتفات نحو الناس -بدل الاهتمام بذواتنا - نوع من التواضع الجميل. يعزو الفيلسوف "رسل" أعظم الفضل في سعادته إلى أنه استطاع أن يخفف، شيئاً فشيئاً، ومن استغراقه في ذاته والمبالاة بنفسه، وأن يلتفت نحو العالم الخارجي . قد يبدو للوهلة الأولى أن العزوف عن الذات – وهي عالمنا الداخلي – والالتفات نحو العالم الخارجي، أمر ليس ببالغ الأهمية، لكنه يعني التغيير الجذري لنظرتنا في الحياة، والتحول من الإعجاب والفخر بأنفسنا، إلى الإعجاب بمفاخر الناس.. من الركض وراء النهم النفسي، إلى القناعة بالقليل. من التطاول والكبرياء، إلى التضاؤل والتواضع
أن الناجح يرتفع إلى مكانته السامية، بالتخلي عن المكانة السامية، ويكبر في عيون الناس، قدر ما يتضائل ويتواضع.. وليس في التاريخ من إنسان عظيم لم يتصف بالتواضع خلقاً، ولم تخلد شخصية لا تصفها بالكبرياء والجبروت.. وسير قادة المجتمعات ومصلحي البشر تفيض بالأمثلة الناطقة، والكتب السماوية المقدسة – التي هي قائدة الكتب الاجتماعية وحاملة لواء الاصلاح – تضع التواضع أساساً أولاً للخلق العظيم. ومن يريد التواضع عليه ألا يحاول تعليم الناس – تبرعاً – إلا إذا طلبوا منه ذلك، خصوصاً إّذا علم مقدماً بأن تبرعه بالتوجيه والنصيحة لن يثمر شيئاً
إن اكثر المفكرين في العصور القديمة – ولا زال بعضهم حتى يومنا هذا - (يحسبون أن الإنسان يتأثر كل التأثر، في عقيدته أو اخلاقه، بالموعظة والكلام المجرد.. إنهم يجهلون حقيقة الإنسان، وكيف أنه يتأثر بظروفه الواقعية أكثر مما يتأثر بالأفكار المثالية التي يُوعظ بها. فالموعظة لا تجدي نفعاً إلا إذا كانت ملائمة للظروف الواقعية ومنسجمة معها). يقول "برنارد شو": (إن كنت تُعلّم الإنسان أي شيء، فلم يتعلم أبداً). لذا فإن من يُعلّم الناس يتعب، لأنهم لا يتقبلون الإرشاد، كما اتضح، ولأن تقبلهم التعليم والتوجيه معناه الاعتراف الضمني بقلة إطلاعهم، أو ضعف ذكائهم، وثم اعترافهم بسبق من يقوم بالتعليم، وبامتيازه عليهم.. فليكن شور الآخرين نصب أعيننا، ولنحاول أن نجد المناسبة التي نرفع فيها من شأنهم، ونشعرهم أنهم أرفع مما يتصورون، لا بالتحدث عنهم مباشرة، بل بالتحدث عن مواطن اللباقة والذكاء في فعل من أفعالهم. قال الفيلسوف الألماني المشهور "شوبنهاور" : (إن المجاملة كالمقاعد المطاطية للعربة، لا تحتوي غير الهواء، لكنها تخفف من عثرات الحياة). ولكي نتأكد مما تفعله المجاملة ،عملياً، باستطاعتنا أن نجربها مع اللذين لا تربطنا وإياهم روابط ودية قوية.. ولنحاول، مثلاً، أن نجد في ملابس أحدهم قطعة حسنة – وليس من المعقول أن تخلو جميع ملابسه من شيء حسن – فنقول له بلهجة العجب: حقيقة أن الخياط الذي فصل هذا الثوب قد أجاد تفصيله..! من أي مخزن اشتريته؟ ولننظر ما سيكون رده.. فقد ثبت بالتجربة أن الفرد - حتى وان كان قلبه ممتلئاً غيظاً وحقداً – لا بد أن يراجع ذهنه قليلاً، ويقول في نفسه: إن هذا الإنسان يمدح ذوقي، ويحب شخصيتي، إنه ليس مكروهاً إلى الدرجة التي كنت أتصورها.. يظهر أن فيه بعض النواحي الطيبة. وقد قال المفكر "إيمرسن" :(إن المدح هو الهدية الوحيدة التي يشعر المرء إزاءها بالامتنان).. وأن بعض المفكرين يحذرون من (أن المجاملة تفشل، حالما تنكشف للناس). نعم تنكششف وتفشل إذا كانت مرتدية ثوب الرياء.. ولكن، كيف يمكن أن تنكشف المجاملة وتفشل، إذا كانت صادرة عن قلب صادق؟!.. قال بعضهم، إن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تجاوز الآذان). وقال بعضهم أيضاً (إثن على الأصحاب من غير إسراف يخرج بك إلى الملق الذي يمقتونك عليه، ويظهر لهم منك تكلف.. وإنما يتم لك ذلك إذا توخيت الصدق في كل ما تثني به.. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك توان منها بوجه من الوجوه، وفي حال من الأحوال.. فإن ذلك يجلب المحبة الخالصة، ويكسب الثقة التامة..). فلكي تكون المجاملة صادقة، علينا أن نبحث عن المحاسن – وما أكثرها عند الناس لو فتشنا عنها بإمعان وتروّ- ولو كففنا النظر عن أنفسنا قليلاً.. ولكي نجعل المجاملة مدعومة بالصدق، علينا أن نجعلها تتنوع، ونجعل أسلوبها يتغير من مرة إلى أخرى.. فإذا استعملنا الفكرة نفسها مع كل الناس، تنكشف لا محالة وتطعنا بطابع الملق، وإذا جمدنا على الثوب، وجاملنا به مرات، فقد يثير ذلك شكوك صاحبنا وقد نلاقي عكس ما نتمنى. فلنغض النظر عن مساوئ الناس، من أجل كسب رضاهم، ولنذكر حسنة واحدة فيهم بالخير، بعد أن تيقنّا أنها حسنة، ولنطمئن بأن المجاملة لن تفشل حتى مع غير البشر
د . عباس مهدي
No comments:
Post a Comment