Apr 4, 2008

آمن بمبدأ التسليم



في بعض الاحيان، تعترضنا أمور لا بد أن نسلّم لها، سفر حبيب.. طلاق لا بد منه.. بلاءٌ وتمحيص.. عداء من حاسدين.. مرض مفاجئ ومزمن ...الخ، ونحن لا نستطيع الصدام مع القدر المحتوم، فأنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد. إن مبدأ التسليم من أعظم المبادئ الاسلامية السامية، وهذا المبدأ سماه "ديل كارنيغي" في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة): التعاون مع الامر المحتوم، كما اعترف العلماء النفسانيون بفاعليته. يقول "وليم جيمس" (أب علم النفس الحديث): (كن راغبا في كون الأمور هكذا، لأن القبول بما حدث هو الخطوة الأولى نحو التغلب على نتائج أية مصيبة). إن الصدام مع الامر المحتوم لن يُغيّر شيئاً، بل سوف يؤذينا. كتب "ابكتيتوس" في فلسفته قبل تسعة عشر قرناً: يوجد طريق واحد الى السعادة، وهي أن تتوقف عن القلق بشأن الأشياء التي تقع وراء قوة إرادتنا


من جميل ما قرأت في التسليم قصة "شلبي الرجّال" التي يرويها الإمام حسن البنّا -رحمه الله- في مذكراته، يقول البنّا إنه زاره مع صحبة له فوجد بيته نظيفاً ومنيراً، وشربوا عنده القهوة والشراب البارد، وكانت زيارة لطيفة، وفي نهاية الزيارة، قال الشيخ شلبي في إبتسامة لطيفة ورقيقة: (إن شاء الله غداً تزورونني مبكرين لندفن روحية)، وكانت روحية وحيدته، وقد رزقها بعد أحد عشر سنة من زواجه، وكان بها شغفاً مولعاً حتى سماها (روحية) لما لها من مكانة عنده بمنزلة الروح، فحزن الموجودون فقالوا: متى ماتت ؟ ولم لم تخبرنا ؟ فأخبرهم أنها ماتت اليوم، وعلّل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه، فإن الله يغار على قلوب عباده الصالحين، واستشهد بإبراهيم الذي تعلّق قلبه بإسماعيل فأمر بذبحه، وبيعقوب الذي شُغف بحب يوسف ففقده، وساق قصة الفضيل بن عياض مع إبنته حين سألته: هل تحبني؟ فأجاب: نعم، فقالت: ما ظننت إنك تكذب، لقد ظننت إنك بحالك هذه مع الله، لا تحب معه أحد، فبكى الرجل، وقال: يا مولاي! حتى الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل، فانقلب الحزن إلى موعظة إيمانية ودرس تطبيقي عملي . قال البنّا : (ودفنا روحية ولم نسمع صوت نائحة، ولم ترتفع حنجرة بكلمة نابية، ولم نر إلا مظاهر الصبر والتسليم لله تعالى الكبير). والمسلّم بالأمور هو الصابر الحقيقي، وهو من الذين قال فيهم المولى تبارك وتعالى: (إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر/10)، (وما من مسلمِ تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله : (إنا لله وإنا إليه راجعون)، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيراً منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيراً منها ). وراوية الحديث أم سلمة – رضي الله عنها – التي سمعت هذه الكلمات عند موت أبي سلمة فكانت كبرى المصائب عندها، فدعت بدعاء النبي هذا فآجرها الله بأن أبدلها خيراً منه وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وأجر المؤمن عند البلاء عظيم، أنظر أجره في كتب الحديث. وهنا معلومة عظيمة أحب أن أضيفها كذلك من مخففات القلق، وهي أن العاهات والبلائات سبب النجاح والتفوق، فمن صبر ظفر. وفي الآية الكريمة : (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) (يوسف/90). وفي الحديث النبوي الشريف: (النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً). وهذه القاعدة سنة كونية تنطبق على الإنسان المسلم والكافر سواء، فلولا البلاء لكان يوسف عليه السلام مدللاً في حضن أبيه، لكنه صار العزيز في مصر - أي رئيس الوزراء آنذاك- بعد البلاء، وكذا موسى -عليه السلام- وقل مثل ذلك في كل نبي على مر التاريخ


في كتابه دع القلق يقول "ديل كارينغي": (كلما تعمقت في دراسة مجرى حياة البارزين من الرجال، ازداد اقتناعي بأن نجاحهم يعود إلى إصابتهم بعاهات دفعتهم إلى المساعي العظيمة، والمكافآت العظيمة، ومثلما قال وليم جيس : عاهاتنا تساعدنا إلى حد غير متوقع). بغض النظر عن اعتقاد أو توجه الفرد فإن معظم العظماء في أي مجال، برزوا من خلال عاهة أو عجز أو بلاء أو محن، ربما لولا البلاء لما كتب "ميلتن" روائعه الشعرية، وما ألف بيتهوفن الأصم سيمفونياته الموسيقية، وما حكم "نيلسون مانديلا" السجين المستعمر الأبيض. لكن الصفة التي جمعتهم في قالب واحد أنهم كانوا قمة في التسليم


د. صلاح الراشد

No comments: