(1)
لم يفرح في عمره كتلك الفرحة التي انتشلت ذلك القلب الكليم من أحزانه لتجعله يستعد للرحيل .. ليس من دنياه ولكن إلى بيت الله العتيق .. طار منه الفؤاد .. جاءه الخبر فلم يتمالك نفسه من الفرحة .. مضت ليلته تلك عصيبة أشد ماتكون .. ليلة لم يذق مشاعرها عمره كله .. مشاعر مختلطة .. حزنٌ وفرحٌ وخوفٌ وهيبة ... هو لايعرف من أين يبدأ وكيف يبدأ في سرد شعورٍ يعتلج في داخله، تبعثرت الحروف والكلمات .. وعبّرت دموع الفرح مجيبةً لنداء المولى عزوجل .. كل مايعرفه .. أنه في تلك الليلة استسلم للنوم بعد أن أنهكه التفكير الطويل .. وقد ذلّ منه اللسان بحروف ٍ مصفوفة بإتقان راجية داعية
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك
(2)
كان الفؤاد في حالة ٍ من الذهول تضيق العبارة فيها عن الوصف .. تزاحمت الأفكار .. وتناثرت .. وأخذت تعصر الفؤاد بقوة تحثهُ على استجلاب شعور الصدق كأن حقيقة الصدق سقطت عاجزة أمام ما ينتظرها .. أتراه يستطيع أن يتحرر من كل شيء ويترك كل شيء من أجل مولاه ..!!! إنه سيذهب .. وربما لايعود .. إنه سيرحل إلى مولاه عارياً من أردية الهوى .. إنه سيجيب نداء مولاه .. الذي دعاه للتحرر من قيوده التي أقعدته وقطعت عليه الطريق سنوات ٍ طويلة ... هو يعرف ذلك كله .. الذي يؤرقه .. ويُذهب لذة النوم من عينه، أن زمان الرحيل قد أزف .. والصدق يتفلت من فؤاده .. ويستعصي مثولاً ليواطىء اللسان
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك
عبارة زلزلت فؤاده فحلت أطناب الكذب .. كم يحتاج أن يكون صادقاً .. كم يحتاج في هذه اللحظة أن يلبي بكل قوة وهو يمضي إلى مقصده بعزيمة وقوة دون تردد .. كم يحتاج أن يسير في طريقه مع الراحلين إلى البيت العتيق وقد تساقطت أهواؤه على جنبات الطريق
(3)
بين معاني النداء والاستجابة أمضى يومه يفكر .. نداء ربه له أن يلبي ويجيب فيمتثل طائعاً مخبتاً متحرراً من كل قيد ٍ متجاوزاً لكل العوائق التي تعرض له في طريقه .. واستجابته لذلك النداء ..أتراه يستطيع أن يلبي بكل صدق .. أتراها الكلمات تخرج من فيه بيسر ٍ وسهولة .. لا .. هذه المرة تردد كثيراً .. تردد أن يلبي لسانه ولم يواطىء قلبه في تلبيته .. كلمات أبى الفؤاد أن يعطيها جواز مرور إن لم تُكلل بالصدق والوفاء يااااااه .. ما أقسى الامتحان وما أصعبه على النفس!!! أن تنتشل النفس من لهوها وما اعتادت لتقيمها في طريقها إلى الله مذعنة منكسرة .. ملبية ... كان امتحاناً صعباً .. لم يمر بمثله .. لكنه حاول جاهداً أن يتخطاه .. اقتربت أيام السفر .. فاجأته وهو حتى الآن في دوامة الصدق ينظر إلى خط البداية .. تُرى من أين يبدأ ؟؟؟
(4)
تُرى لو أمضى عامه كله أيستطيع أن يستجلب الصدق من جنبات فؤاده الذي يمرّ الآن باقسى وأصعب امتحان ..؟؟ هاهو الوقت يمضي ويتفلت منه زمانه وهو قائم يراوح بين قدميه يراشي الصدق أن يمتثل وقوفاً أمامه ..!! أتراه الصدق يُحسن ادعاءً إن لم يمر على كير الامتحان ..!!! ما كان منه إلا أن يستسلم .. ويتوكل .. ومضى ملبياً داعياً راجياً أن يكون هو ذلك العبد الصالح الذي يرجو أن يكون .. كأنما أُلقيّ في فلاة .. من غير زاد .. في ظلمة الليل البهيم .. وعليه أن يوقد مصابيحه ... في ليلته تلك .. أضاءت في سمائه نجمة .. فسرّه مرآها .. لمعت ببريقها وكأنها تدعوه لعلو .. سار تابعاً ذلك البريق وقد سكنتْ منه النفس .. وذل منه اللسان ملبياً ... وقد سبقه قلبه مع الراحلين إلى بيت الله العتيق
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك
(5)
كاد القلب يفرُّ منه حين صعد الحافلة .. ومضى مع من مضى في طريقه ليقضي يوم التروية في منى .. أنكر نفسه .. كأنما هو ذاهبٌ إلى مكان لايعرفه . ولايعرف ُ نفسه كيف تكون !!! كأنما خُطفَ من دنياه و أُجبر على الرحيل إلى مكان ٍ من الآخرة - هكذا شعر - رحلة كانت تكتنفُ لحظاتها الهيبة والخشوع .. كان يلبّي مع من يلبّي .. صوتُ تلبيته يعلو تارة وينخفض أخرى تبعاً لمشاعره المضطربة .. كان يراقب عبر زجاج النافذة تلك الأفواج السائرة إلى الله .. في هيئة واحدة .. يرتسم على مظهرها خطوط سكون وعلامات افتقار .. ومسكنة .. وكلها تسير نحو هدفٍ واحد ومقصدها واحد .. حدّث نفسه ... " تُرى ماذا يرجون ؟؟ ماذا يريدون ؟؟ مم يخافون ؟؟ " عادَ للتلبية ليخفف عن نفسه هيبة الوصول والتلاقي .. إنّه في ضيافة الرحمن .. تُرى كيف سيكون حال الضيف في دار مُضيفه ..؟؟ مجرد التفكير بهذه المشاعر أقلقه .. فأعاده صوت الملبين إلى شعوره الذي حاول الفرار منه ... " لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك " أخذ يردد معهم . تلك الكلمات الشجية التي استخرجت من نفسه الكثير ... فلم يتمالك نفسه ... فانفجر باكياً ... وصورٌ لمعاني التلبية تتعارك في رأسه .. لتعصر ذلك القلب الضعيف كي تتجلى له معانٍ عظيمة..لم يقرأها من قبل..ولم يفهمها.. لكنه الدرس الحي ..!!! أخذ يردد بكل قوة وثبات مع الملبِّين ..لبّيك وسعديك والخير كله بيديك والشرُّ ليس إليك أنا بك وإليك... لبيك مولاي..لبيك .. ها أنا أجبت دعوتك .. مرة بعد مرة .. أعاهدك على أن أُقيم على الطاعة ماحييت .. أجبتُ نداءك .. واستجبتُ لدعاءك .. وأنا بحاجة إليك وأنت غنيٌ عنّي ..لبيك ماحييت .. لبيك مابقيت .. لبيك ولك الفضل أن ألبي لبيك .. ولك الحمد على أن دعوتني .. لبيك ياذا المن والفضل .. لبيك يامولاي فامنُن على من سارَ إليك
(6)
آهٍ .. يامنى، يادياراً سكن الفؤاد بها ,فتركته فيها رغم أنه قد ارتحل.. ليلك يامنى ليل العابدين الساهرين .. ليلكِ يامنى ليل الذاكرين المستغفرين أوَ كان ليلاً يامنى !!.. أوَ كان يامنى يوماً من الزمن !!.. كان نوراً أشرق في القلوب فاستحالت سمائك نورانية .. أينما التفتَ في ذلك المخيّم إلا ووجد من يناجي ربه بلغة متفرّدة كلٌ له طريقته .. فهذا قارىء، وهذا مستغفر، وهذا مصلٍ .. هذا كبيرٌ وهذا صغير .. وهذا يتقلب في فراشه ثم يقوم ناصباً قدميه يناجي ربه .. وهذا مقعد الجسد حي الروح واللسان .. لايغمض له جفن .. ما أجمل سهر العابدين .. وما أجمل أحاديثهم .. وما أجمل صحبتهم ورفقتهم .. ليلة أضاء فيها نور القمر في السماء قبل منتصف الشهر بل أضاء في قلبه وقلب كل عابدٍ خاشع .. فأمست ليلة .. قدسية تغشاها المهابة .. ليلة من تلك الليالي المعدودات تحكي أعماراً ممتدة من عمر الزمن
(7)
هيبة جللت هذا الصباح .. فترددت الخطوات في سيرها .. كأنما هو يوم لابد أن تخلع فيه كل رداء زيف لتقبل على مولاك بدون ألوان .. أبيضاً طاهراً نقياً .. سارت به الحافلة .. ليتجه إلى عرفات .. عرفات الله .. التي كان يبكي نفسه فيها كل عام حالماً بلقيا ولقاء .. ها هوالآن يحقق حلمه فيطأ بقدميه صعيد عرفات .. ترآءت له صورة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو ينفر من منى إلى عرفات .. راكباً ناقته الآن ممسكاً بخطامها .. يسير مع صحبه السائرين .. اغرورقت عيناه لهيبة الموقف فلم يتمالك نفسه لجميل الذكرى .. وعاد ملبياً ليستجمع شيئاً من قوة .. ليوم ٍ من أيام الدنيا .. ليس ككل الأيام .. كيف لا .. وهو يوم نزول الربّ ..!!!!! ارتعدت فرائصه .. لمّا استشعر نزول الرب وجلاله وهيبته .. فانتفض كما طير صغير كسير الجناح .. وعبارة تتردد في ذهنه " ينزل ربكم عشية عرفة "..." ينزل ربكم عشية عرفة " " ينزل ربكم عشية عرفة ".. ما أعظم النازل سبحانه .. وما أعظم النزول !!! أفكارٌ أخذت تتزاحم في رأسه.. وخوف ٌ من أن يكون محروماً في هذا اليوم ورجاءٌ يبدد ذلك الخوف .. في يوم ٍ يباهي الله به ملائكته .. فيقول : انظروا لعبادي هؤلاء .. أتوني شعثاً غبراً .. أشهدكم أني قد غفرتُ لهم
No comments:
Post a Comment