حياة الروح .. وروح الحياة .. ما أجلها وما أجملها .. عظيمة رفيعة .. تنبض لها القلوب .. وتختلج بها الجوارح .. تسيطر على الجسد فتجعله يسمو ويعلو .. تعمر القلب فتجعله ساكناً مطمئناً.. مَنْ! َمنْ يستطيع أن يعيش بدونك؟ كيف تحلو الحياة إلا بك
من يتعلق بك تتعلقين به، ومن يشدك تشديه، طبعك الوفاء، وفيَّة أنتِ لأصحابك
ليس في الدنيا بأسرها وفياً مثلكِ، وليس في الكون أعظم من نفحاتك، سرور القلب ونوره الذي لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا
أنت حياة المؤمن الطاهرة، ودواء السقيم والعليل، أنتِ نور البصائر من عماها ، وشفاء الصدور من أدوائها
لولاكِ! لما تفرقت الهموم والأحزان .. لولاك لهاجمتنا جيوش الشياطين ، ولتقطعت بنا الأسباب . أنتِ الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون .. ويشمِّر لها العاملون
أنتِ القائدة التي تقودين صاحبك إلى جنات النعيم .. لست أدري! كيف يقدرون على هجركِ
كيف يعيشون بلا وصلكِ! كيف يتمتعون بغيركِ
لستُ أدري كيف هي مشاعرهم؟ ماذا تختلج به صدورهم؟ مَنْ؟ مَنْ هجروكِ
كيف يستريحون إلى جانب غير جنابكِ
أنتِ القلعة العظيمة التي ندخل منها على رب الأرباب، وخالق البريات
لقد شاءت إرادة الحكيم العليم أن يخلق البشر، ويمنحهم العقل الذي يرجحون به الهدى من الضلال، ثم وضع لهم ميزان الشريعة وثبته كي لا تعصف به الأهواء
وهنا أُسائل نفسي : كيف تكون بُنية إسلامية سوية، لا معطلة ولا مشوهة، بل بكامل قواها وعافيتها وعقلها، وتعرض عن الحق، ولا تستجيب لنداء الإيمان .. بل تختار لنفسها الصد والبعد والانحياد عن سبيل الرشدإن . إنسانية المسلم ترفض الجمود .. فلا تضع على عقلها قيداً من الفتور، ولا تدع قلبها مغلقاً عن تدبر المواعظ والآيات، فيكون حالها كحال الذين قال الله فيهم - مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
يا مسلم .. يا مَنْ تشهد أن لا إله إلا الله .. لقد خُلق الإنسان ليسعى .. لا ليكون نائماً هائماً يقوده هواه كما يٌقاد البعير
إن الحياة والعافية والنعمة الرغيدة التي تعيشها وتستمتع بها دون أن تلتفت إليها، وأعني بها نعمة الإسلام التي هي أكبر من كل نعمة .. هيّ إحسانٌ من الله عليك وتفضلاً منه لك، فذلك يتطلب منك أن تكون شاكراً للمنعم، ولا تستطيع أن تحصي ثناءً عليه
إن الساهي عن عبادة ربه عاجز لا يصل إلى أغراضه، ولا يحقق رغائبه..أما أولئك الواصلون إلى مراميهم بالأماني والأحلام وهم لا يتقربون إلى خالقهم بالصلاة فلابد أن تدمي أقدامهم وعورة الطريق كلما اجتاز عقبة وقع في أخرى هذا في الدنيا ثم في الآخرة سيُكتوون بنار الخذلان عياذاً بالله. فلم نر أو نسمع عن مسلم قعد عن الصلاة إلا داسته الحياة ونبذته وألقته على هامشها
إلى متى ستظل تائهاً عن الطريق؟ ألست تبحث عن السكون والراحة؟ إلى متى ستظل تملك نفساً مختلة تسيطر عليها الوساوس، وتنهكها العلل؟ إلى متى؟ إلى أن تكتشف خسارتك؟
عندما تجد ما عملته من سوء ماثلاً أمامك، يقول الله تعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (30) سورة آل عمران
كم أتمنى أن أتجول في داخل مسلم لا يصلي، كيف يعيش؟ لابد أنه يعيش بداخل مظلم؟ معوّج، مضطرب. ما الذي يضئ داخلك، وخارجك وجوارحك؟ كيف تعيش بدون وصل الحبيب الذي يستحق الحب والوصل، لقد أوصاك بوصل قريبك ووالديك وأحبابك .. فكيف بوصله! قرة عين المحبين، ونعيمهم، ولذة حياتهم في مناجاته
أنت ترى ظلمك لنفسك في تخليك عن الصلاة، وتدرك خطرها، ويسوؤك من يتهاون بها من أقرانك أو ممن هم دونك.. فإلى متى .. إلى متى تخبط في الدنيا خبط عشواء؟ إلى متى تسير كما يحلو لك دون حساب للرقيب، غافلاً عن معرفة الحق؟
إن من حق الله عليك أن تتوجه إليه بعبادته، وأعظمها الصلاة .. إنك تعرف وتدرك! ومن حقه جلَ شأنه أن يغضب على من يقطع صلته به .. إذا عرف وانحرف، وأدرك واقترف بمَ شُغلت عن ربك ؟ وبماذا تشتغل الآن ؟ هل الصلاة مشقة وعذاب ؟ هل الصلاة تعب وعناء ؟ إنّ كثيراً من أعمال الدنيا أشد مشقة وأكثر عناء وجهداً. بالله عليك " كم تأخذ الصلاة من وقتنا في اليوم والليلة، ساعة أو أقل أو أكثر قليلاً، مقابل ماذا ؟ مقابل أن يعطيك الله من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، انظر إلى سائقي الشاحنات، وانظر إلى الحداد والغواص، والبنّاء الذي يعاني برد الشتاء وحر الصيف .. وغيرهم كثير ممن يبذلون الجهد الجهيد في كسب العيش. إن كنت ستجيب .. أن الصلاة مشقة، فقد نوافقك قليلاً، ولكنها مشقة ممزوجة باللذة، وإن ثقُلت عليك تذكر نعيمها الذي لا يساويه نعيم، فالدنيا كلها تتهاوى عندما يفقد المسلم صلاته .. ويتحقق له الرقي والفلاح عندما يكون من المصلين
سأطرح عليك سؤالاً قد تتعجب منه! هل تريد الجنة؟ ستقول نعم، وبتعجب! كيف؟ وأين الثمن؟ أنظر إلى الرزق، هل يمطر عليك من السماء؟ إن لم تسعى له وتتعاهده، كذلك الجنة .. تحتاج إلى بذل وسعي، فعندما طلب ربيعة بن كعب رضي الله عنه مرافقته صلى الله عليه في الجنة، قال له: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود" والله جل شأنه يقول: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إن الله يدعوك إلى دار السلام يقول سبحانه {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}، ثم رضوان اللــه عليك أكبر من الجنة وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ . ثم النظر إلى وجهه العظيم نسأله ألا يحرمنا فضله ـ ففي الحديث الصحيح : حديث الرؤية: "فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه" فإذا رأوا وجه اللــه نسوا ماهم فيه من النعيم .. ألا تريد رؤية ربك الحبيب؟ أترجو الرحمة والمغفرة؟ إن هذا جهل مركب وليس بسيط
فالله تعالى يقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ويقول تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} لماذا لا تريد أن تدخل تحت ظلال رحمته؟ أتخشى الله وتخافه؟ كأني بك ستقول نعم ! بمـــاذا ؟ فإن للخوف ثمرات، تهون بها اللذات، وتقود القلب إلى رب البريات، وأنت تعلم أن الله لو أراد أن يهلك العالمين لم يبال .. وما أهون العباد لديه إذا هم عصوه. ومن يخاف يحذر .. يحذر من بطشه وعقابه
يقول عليه الصلاة والسلام: " أنا أعرفكم باللــه وأشدكم له خشية ". إن الاستخفاف بفريضة الله عليك وتفريطك لها، وضعف إرادتك، هو لأنك أسقطت خوفك وتعظيمك له سبحانه، وبهذا سُلبت محبته ورضاه. تعَّرف إلى الله، فمتى عرفته عظّمته، ومتى عظّمته خشيته، وإذا خشيته عبدته وأحببته. الصلاة راحة أعصاب من أعباء الحياة المرهقة، وطمأنينة القلوب التي عهدت بأعبائها إلى من هو أقوى وأقدر .. واستشعار صلة بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من اعتصم به. إنها مهذبة للسلوك الإنساني، متممة له
إنك بحاجة إلى الشكوى .. تشتكي لمَنْ؟ للمخلوقين؟ إنك بحاجة إلى الرحمة .. تسترحم مَنْ ؟ الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ... إذا ضاقت بك الدنيا ... تلجأ إلى مَنْ ؟ إلى ضعاف الخلق .. إذا أثقـلتك الهموم والأحزان ... تنادي َمَنْ؟
إنه الحبيب .. العزيز الحكيم .. التواب الرءوف إنه العظيم .. الذي خضعت لعظمته الجباه
إنه الملك .. الذي ذلت له الملوك
ألديك شك في ذلك ؟ يا من قطعت وصلك به
يا من أخطأت الطريق، لا يكن حظك كحظ الدواب
فالله تعالى يقول {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}، وهم الذين لم تُفد فيهم الآيات والنذر، ولا يفرق بين ما يضره وما ينفعه
ذكرنا بنداء عظيم لم يجعلنا نعتمد على أنفسنا الأمَّارة بالسوء، المصابة بطبع الفتور، بل من عظيم نعمه أنه ينادينا إليها في اليوم والليلة خمس مرات، نعم بل من عظيم منته أن ينادينا : حي على الصلاة .. لنترك كل شيء .. الصلاة خير من النو م .. فهو المحبوب في جنابها، ومن خلال أدائها نشهد أن الله واحد، الله أكبر .. أكبر من كل شئ، الله أكبر بالجنان وباللسان، فهو خالق كل شيء ، ومبدع كل شيء، ومصور كل شيء، وقاهر كل شيء. وله الكبرياء في السموات والأرض .. الإله الحق والملك الحق
سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره، وسعة رحمته وصبره، فاقتضت حكمته أن يخلق من يعصيه ويسعى في مساخطه، ومع ذلك يسوق له الطيبات ويرزقه ويعافيه ، الله أكبر! يا من لا تصلون .. كيف تعيشون؟ وكيف تطمئنون، بل كيف تنامون وتأكلون وتشربون؟
كيف ترفلون في نعم الله، وأنتم لا تصلون. ولولا رحمة ربي لحطمهم، لولا صبر ربي على الذين لا يصلون لساواهم بالتراب، لكن من صفاته الرحمة والإمهال والصبر
إنهم يُعاقبون ولا يشعرون، بل يشعرون، إنهم معاقبون بالهموم والغموم، إنهم معاقبون بظلمة الصدور، وقلق النفوس، إنهم مبتلون بالضيق والملل، ضيق الأرزاق، وضيق الأخلاق .. إنهم مصابون بالخوف، وبغض الخُلق ، وأذهانهم طائشة، وإن لم يُشعروهم بذلك.. كيف يطمئنون وهم منقطعون عن وصل القادر الذي إن شاء خسف بهم الأرض، ما الذي يجعلهم آمنون وهم منفصلون عن مقام العبودية لخالقهم ورازقهم؟ إن كانوا آمنون
إنا نصلي ولله الحمد والفضل سبحانه، ومع هذا فإنا نخشى ألا تُقبل صلاتنا، فعندما نسمع عن صلاة رسول الله وصحبه، وسلفنا الصالح نشفق على أنفسنا وصلاتنا، ولا نعلم كم قُبل منها فكم يروعنا ذلك الحديث الصحيح :" ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وأن المصلي قد يصلي الصلاة، فلا يكتب له منها إلا سدسها وإلا عشرها " رواه أحمد، وأبو داود
جعلنا الله وإياكم من المحافظين على الصلاة في وقتها، وتقبّل منا أجمعين يا أكرم الأكرمين
No comments:
Post a Comment