Dec 31, 2007

وقفة مع نهاية العام



لقد وقفت أمام يوميتي لأنزع ورقة آخر يوم من عمر العام المنصرم 2007م، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة وهي تمتد إليها، وانتابني إحساس نبّه في وجداني شعوراً، ما كنت أعيره اهتماماً على مدى أكثر من 350 يوماً قد انتهت، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو إلى يدي في فزع وذل، كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة، فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة عندما عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها سجلّي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وشر


إن هذه اليومية المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين عمرُ الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى الزوال { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:26-27]، إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها، وتطوى، إلا هذا المخلوق - الإنسان - فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا، وموقوفاً للحساب والجزاء . عدت من ذهولي، وأخذت استحث ذاكرتي القاصرة، علّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النسيان، ووقفت طويلاً استعرض ذلك الشريط الطويل (العمر)، يا سبحان الله العظيم، إنه شريط عجيب حقاً، فقد اكتظ اكتظاظاً، وأفعم إفعاماً، لقد اكتظ بالحوادث المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة


لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟ إن الجواب على هذا السؤال مخجل، ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في مدرسته أو جامعته أو عمله، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في المذاكرة أو قضاء الأمور المعيشية، ثم ينام، ثم يعود في الصباح وهكذا وهكذا، إنها والله حياة ليست فيها دقائق مخصصة لقراءة القرآن، ولتعلم أحكام ديننا، وليست فيها دقائق مخصصة لقيام الليل، وصلاة السنن والنوافل، وليست فيها دقائق مخصصة لحضور مجالس الذكر والمحاضرات، وليست فيها أيام لصيام الاثنين والخميس، وليست فيها دقائق لبذل المعروف وقضاء حوائج الناس


لقد شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا، ونحن الذين حذرنا جل وعلا منها، قال تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون:9-11] ، وقال صلى الله عليه وسلم: « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به » . سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة والطاعات، أم أفنيناها في اللهو والغفلة والعبث؟ ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السمع واللسان، أم أبليناها في تناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب ؟ والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شي ء في الأرض ولا في السماء. قال تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } - المجادلة:7


إن بداية العام الجديد فرصة لكل واحد منّا لكي يفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل، صفحة بيضاء نقية، يعاهد الله فيها أن يسلك طريق الالتزام والهداية، يعاهد الله فيها أن يكون كتاب الله عز وجل جليسه، وذكر الله عز وجل أنيسه، وقيام الليل وصيام النهار سبيله، والأخ الصالح في الله نديمه. صفحة يعاهد الله فيها أن يترك كل معصية تبغضه، وكل أغنية ماجنة من القرآن تحبسه، وكل نظرة محرمة للقلب تقتله، وكل جليس سيء من الله يبعده. اللهم اجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي بتوفيقنا لطاعتك وترك معصيتك يا رب العالمين، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة لقبولنا في قافلة العائدين إليك والمنيبين إليك يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Dec 30, 2007

هادم اللذات .. الموت






الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل : " أكثروا من ذكر هادم اللذات"، الموت، مُفرق الجماعات، ومُيتم البنين والبنات، ومُؤيم الأزواج والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات، المجرّع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات


من العجيب الغريب أن كثيراً من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يُذكَّروا به، ومنهم من يتشاءم بمن يذّكره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أو تناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد ؟ بل أين بعض الأبناء، والأزواج، والأقارب، والجيران، والأحفاد ؟
ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا، ونعانا إلى أنفسنا، فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل، ولا بر ولا فاجر



إن الأدواء العصيبة والأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له هي أمراض القلوب المعنوية : حب الدنيا ، وطول الأمل ، والغفلة ، وكراهية الموت ، وذلك لأن كثيراً منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز : ( لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق ولكن لا يعملون له )، أوكما قال
إذا أردت الخـلاص من هذه الأدواء المضلـة المذلـة فعليك بوصيـة رسـولك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أوعابر سبيل

هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا، وطول الأمل، ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء : التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك الأنصاري عندما سأله : كيف أصبحتَ ؟ فقال: أصبحتُ مؤمناً حقاً؛ فقال له: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأقمتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها؛ قال له : يا حارث، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم



إليك أخي الكريم أنموذجاً واحداً من سلف هذه الأمة، ممن عرفوا قدر الدنيا فعزفوا عنها، وقد جاءتهم راغمة، وأدركوا مصيبة الموت، ومآل المقبورين، وحال الهالكين، فاستعدوا لذلك، وشمروا لما هنالك، ذلكم هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لعل الله ينفع بها، فالذكرى تنفع المؤمنين
روى ابن الجـوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز له عن أبي فروة قال: (خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس: قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟ قلت: ما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟ قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟ قلت: وما لقيت الأبدان؟ قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين، وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛ قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟ قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال: ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها ؟ أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرّة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان ؟ امحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم ؟ والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات ؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء ؟ أليس هم في مُدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته



اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر الخطيئات، وأن تغفر للآبـاء والأمهـات، وأن تصلح الأزواج والذريات، إنك ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك


واعذروني على الإطالة

Dec 29, 2007

أعجب الأماني



الأماني، هي آمال يتطلع الإنسان إليها ويتمنى أن تتحقق في عالم الواقع، وقد تتحقق وقد لا تتحقق، لأنها – كما في الإسلام - معلقة بشرط ومشيئة، فالشرط هو العمل لأجل الوصول إليها بكل الأسباب المتاحة.. والمشيئة هي إرادة الله للشيء أن يكون . . ومن أعجب ما ذكر القرآن الكريم من الأماني، أماني المؤمنين الذين وثقّوا صلتهم بالله، وأيقنوا برحمته وفضله وقدرته.. فكان لهم ما تمنوا حيناًً، وشاء الله غيرها حيناً آخر


فهذا زكريا عليه السلام النبي الذي بلغ من الكبر عتيا وكانت امرأته عاقراً، لم يرد أن يخرج من الدنيا دون أن يبقى له أثر ويتمتع بنعمة الذرية الصالحة.. وعلى رغم ظروفه التي يعاني منها هو وزوجه.. غير أن الأمنية تمتلك عليه فؤاده، ويدعو غير يائس ولا قانط ليهبه الله تعالى ما حُرم منه ، " ذكرُ رحمةِ ربكَ عبدهُ زكريا، إذ نادى ربهُ نداءً خفياً....... إلى قوله سبحانه .. ولم تكُ شيئا " .
وهذا إبراهيم عليه السلام يدعو ويتمنى أمنية عريضة عندما يستشعر نعم الله تعالى عليه " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماماً " فتنطلق الأمنية : " ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين ".. إن مواهب الكريم المنّان لا تُعطى بالأحساب والأنساب، لكنها تُعطى للمؤمنين الجادين : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " . وهذا يوسف الكريم ابن الكريم، تتعرض له ربة القصر وتعرض عليه مفاتنها وتُؤمنه وهو الغلام الفتى والشاب اليافع، فيرفض.. فتُحاك له المؤامرة مرة أخرى من نساء القوم.. فيتمنى أمنية عجيبة " ربِ السجنُ أحب إلي مما يدعونني إليه "!! ويشاء الله تعالى اختبار هذه الأمنية فيحققها له فلا يجده إلا شاكراً. وهذه مريم العذراء عليها السلام، تُمنح معجزة عظيمة لم تسبقها إليها أحداً من نساء العالمين.. فتحمل نبياً من أنبياء الله بكلمة من الله ودون أن يمسها بشر، لكنها – وبعد أن وضعت وشعرت بما قد يقوله اليهود عنها، وهي الشريفة العفيفة الطاهرة - تمنت أمنية عجيبة.. تفتقدها نساء الفضيحة والعري في زماننا هذا : " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا "، إنه الحياء .. إنها العفة.. وهكذا تكون الحرة



وفي مقابل أماني المؤمنين في الدنيا، يعرض القرآن الكريم أماني الكافرين والضالين والظلمة عند الوفاة وعند الحشر وفي النار..!! لأن أمانيهم في الدنيا غير مستعجبة ولا مستنكرة، لكن المستعجب أن تتحول هذه الأماني في الآخرة إلى النقيض تماماً ، فبعد التمتع والانغماس في الشهوات يتمنى الغافل عند الموت : " رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت " لكن وللأسف ويا للأماني الفائتة : " كلا، إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " ، ويقوم الناس للحشر وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنَّى له الذكرى يقول : " يا ليتني قدمت لحياتي"!! لكنها أماني الوقت الضائع
ويري الكافر بأم عينه الحساب ودقته، والقصاص وعدله في الحيوانات، والتي تُحال بعد هذا إلى تراب فلا جنة لها ولا نار، لأنها لم تكن تعقل.. حينها يتمنى الكافر، "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " . وتتوالى على الكافر والظالم الأمنيات (المعذِّبة).. أمنيات الحسرة والأسى.. وتتطاير الكتب، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله، وآخذ ٌمن وراء ظهره، ولا حاجة للظالمين والكافرين في فتح سجلاتهم.. فهم يدركون بعض ما يكفي منها لورود النار، وتكون أمنية الواحد منهم "يا ليتني لم أوت كتابية، ولم أدر ما حسابية " ولا تتوقف الأمنية عند هذا الحد: " يا ليتها كانت القاضية "!! – أي الموتة الأخرى
وتنقطع العلاقة الحبيبة عند الحساب، ويبرأ الأخلاء من بعضهم – إلا المتقين - ويقول الظالم : " يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا "، َويتوجه إلى صاحبه الذي كان يلازمه ويستأنس به في متع الحياة وقضاء الأوطار بأمنية عجيبة "يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " وتتحول سخريتهم بالدين وأهله، وبطاعة الله واتباع رسوله في النار إلى أعز أماني الكفرة والظالمين : " يوم تُقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول"!! ولكن ولات حين استجابة
إنها لو تتأملها ستكون أعجب الأماني

هل أنت حقاً سعيد؟؟



من الأسئلة ما قد لا يكون الجواب عنها بالنفي أو الإثبات مقصوداً، بل المقصود منها تحريك الذهن الخامل أو المتخامل للتفكير فيها، بما يدفع إلى اتخاذ الخطوات الصحيحة السريعة، ولأني أثرت معك ما هو من جنس هذه الأسئلة فاسمح لي أن أساعدك ـ وأنت أولى من يُساعَد ـ ببعض الحقائق لكي تعينك على أن تحسم مع نفسك ـ ولو نظرياً ـ جواب هذا السؤال، ولتحدِّد على ضوئه ما يلزمك من إجراء لإدراك المتعة والسعادة بما بقي من شبابك
ولعلك تسلِّم معي – أخي - بأن السعادة الأخرويَّة لا تكون إلا بإحسان علاقتك بربِّك سبحانه -، ولعل هذا ما يجعلك تقرِّر في نفسك الصلاح والإقبال على الله بعد إنجاز أهدافك الدنيويَّة، من تخرُّجٍ، وعملٍ، وزواجٍ، وبناءِ بيتٍ، واستقرارٍ ماليٍّ وأُسريٍّ ...، لكني أكاد أجزم أنه يغيب عنك كليًّا أو جزئيًّا أن نفس هذا الإيمان والإقبال على الله هو سببٌ لسعادتك الآن، بل وللتوفيق في كل خططك المستقبليِّة



وأنت إذا تأمَّلت معي آيات القرآن تبيَّن لك هذا الأمر، فتأمَّل معي في قوله سبحانه و تعالى : ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))(97) سورة النحل، تجد أن الحياة الطيبة أي السعيدة إنما المقصود بها سعادة الدنيا، لأن الكلام عن الآخرة جاء مستقلاًّ بعدها، وقوله عزَّ وجلَّ: ((وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ـ أي في الدنيا ـ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ))(3) سورة هود ، بل تكفَّل الله - تعالى - بالسعادة حتى لمن وقع عليهم الظلم واضطُرُّوا إلى ترك بلدانهم - وهذه من أسباب التعاسة عند الكثيرين - في قوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))(41) سورة النحل. وإنما أكثرت معك من ذكر الآيات لأن هذه الحقيقة تكاد تكون غائبةً حتى عن بعض العقلاء من أمثالك
وبما أن بعض الشباب قد لا يقتنع إلا بناءً على التجرِبة فإننا ندعوهم ـ وندعوك إن كنت منهم ـ إلى البدء الجادِّ في دروب الاستقامة، لا على سبيل التجرِبة للتأكُّد من صدق الأمر؛ إذ كلام الله لا يتطرق إليه الشكُّ، ولكنها دعوةٌ أخويَّةٌ لتذوُّق هذه السعادة للقطع بكونها أعظمَ من كل نعيم البدن الظاهري من مأكل ومنصب ومركب، قطعاً يدعوك للتمسُّك بها عن حبٍّ وقناعةٍ رغم كثرة المغريات ودواعي الفساد في هذا العصر خاصة لمن هم في مرحلتك



ويكفينا نحن في باب التجربة ما حكاه ابن القيِّم - رحمه الله - عن بعض العارفين من قولهم: " لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - أي من السعادة والسرور - لجالدونا عليه بالسيوف" وقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قال: محبة الله - تعالى - ومعرفته وذكره
ونحن وإن لم نصل إلى تذوَّق هذه السعادة كما ذاقوها فإننا نجزم بصدق هؤلاء في قولهم، وكمال إدراكهم وذوقهم بعد جزمنا التامِّ بصدق خبره - سبحانه وتعالى
وكلُّ ما أرجوه منك - أخي - وقد صبرت معي إلى آخر المقال ألاَّ يكون هذا آخرَ عهدك به، واسمح لي بأن أثقل عليك بطلب منك أن تستصحب في ذهنك هذه النقاط وأن تنظر في حقيقة حالك التي لا يعلمها من البشر سواك، وأن تسأل نفسك بكلِّ صدق وتجرُّد: هل أنت - حقًّا - سعيد






_______________________
إقرأ أيضاً - مقالات ذات علاقة - البحث عن السعادة

Dec 27, 2007

البنت السوبر 2

ويستمر الكلام إلى الأبد‏..‏ ويستمر الجدل في كل بيت‏..‏ وتستمر مكابرة المكابرين‏. ‏وإنما أراد الله أن يمتحن الكل، وأن يختبر القلوب والنفوس حتى نخاع العظام وهو- هو - وحده الذي يعطي الحرية للجميع ليفعل كل امرئ ما يحلو له حتى لا يعود لأحد منهم عذر ، وحتى لا تبقى له ذريعة ، ولا تعود له حجه‏..‏ ‏‏فمتى نسقط عن أنفسنا هذا الزيف بايدينا قبل أن يفاجئنا الموت، فيعرينا هذه التعريه المخجله‏. ‏متى نعود إلى عروبتنا، وإلى إسلامنا، وإلى لغتنا وإلى أصلنا‏. ‏متى نلتقط قارب العبور في محيط العولمة الخادع ونكتشف طريقنا إلى نفوسنا وإلى حقائقنا وإلى تميزنا وانفرادنا وخصوصيتنا‏.‏ إن العودة إلى النفس هي بداية النجاة‏. ‏ومعرفه النفس هي أم المعارف وبداية الطريق لمعرفه الله‏. ‏والبنت السوبر لن تصلح لتعمر بيت‏. ‏إنها قد تصلح كقطعه ديكور‏..‏ أو كورق ملون للحائط‏..‏ أو كدمية من السوليفان‏..‏ ‏ولكنها لن تصلح لرحله عمر‏..‏ لأنها فقدت نفسها‏..‏ فقدت خصوصيتها‏.‏ وكل نسخة من نفوسنا خلقها الله كبصمه الإصبع خاصة جداً وشديدة الخصوصية وغير قابله للتكرار وغير قابله للعولمة‏..‏ فهي ذات ليس لها مثيل في سرها وخصوصيتها‏..‏ وهي تلمع وتتالق كالجوهرة كلما حافظت على هذه الخصوصية ولم تذب ولم تتعولم ولم تصبح مشاعا‏..‏ والنفوس العظيمه هي التي استعصت على الذوبان، وحافظت على البصمة الالهية الخاصة فيها‏.‏ وما أكثر ما تروج صحافتنا من ضلالات‏..‏وأولى تلك الضلالات هي العولمة وهي كلمه مهذبة جداً للتبعية، والأمركه، وفقدان الهوية، والخصوصية، والذوبان في الهلامية العالمية‏. ‏وليس أجمل في الدنيا من قول لا اله إلا الله‏..‏ إن لغتنا العربية هي حصننا، ومحفظه تاريخنا، وحروف قرآننا‏..‏ وهي وجهنا وملامحنا، والتفريط فيها، تفريط في ملامحنا، وسحنتنا، ونسبنا، وهويتنا‏.. وإصلاح هذا الأمر‏..‏ والنهوض بتعليم اللغة العربية واجب ، فما يصلنا من خطابات بلهاء مليئة بالأخطاء يدل على تدهور مستوى هذه اللغه إلى درجة تنذر بالخطر‏..‏ ومذيعوا النشرات في التليفزيون يتهجى بعضهم الكلمات‏. ‏فاللغه التي نتبادلها في غفلة وخفة هي صنعة الهية‏..‏ والله هو الذي علمها بذاته لآدم..‏ فهو الذي علم آدم الاسماء كلها‏.. ‏ومعلم العربية، هو خليفه الله في هذا الشرف الرفيع‏..‏ ومن يحلم بمثل هذا الشرف ؟؟‏!!‏ وندق جرس الإنذار‏

البنت السوبر



اللغة العربية تتراجع ومعها أسماء الدكاكين، وأسماء المأكولات، لتزحف علينا غزوات أعجمية تقتحم علينا حياتنا، وتصبغها بالصبغة الأمريكية ‏..‏ فالقرى السياحية الجديدة تملأ الصحف بأسماء ‏..‏ الدريم لاند، والكورال بيتش، وبيفرلي هيلز، وجولان بيتش‏.‏ وتدخل هذه الرطانة قاموسنا اللغوي وتحتله ‏..‏ ونجد انفسنا نقول‏ ..‏ دادي‏..‏ واونكل‏..‏ وتانت‏..‏ وبودي جارد‏..‏ وكتالوج‏..‏ وباسبور‏..‏ وستريو‏..‏ وسوبر ماركت‏..‏ وبون جور‏..‏ وباي باي‏..‏ وبارتي‏..‏ وهاي‏..‏ واوكيه‏..‏ وهالو‏..‏ وبرافو‏..‏ وسوفاج‏..‏ وام بوسيبل‏. ‏ويجري التشويه والعبث في الألفاظ العربية ‏ وننسى أننا نفقد بهذا، أرضنا التي نقف عليها، ونفقد عروبتنا، ونفقد قوميتنا، ونفقد قيمنا، ونفقد خصائصنا‏..‏ فلا عجب أن تختفي الشهامة العربية بعد ذلك من الشارع‏..‏ وأن يختفي الشرف بمفهومه العربي من البيت، وأن تكون العروسة السوبر في نظر العريس هي مسخ فرانكو أراب‏..‏ فهذا هو القالب الجديد الذي يبحث عنه والذي انطبع في ذهنه من رؤية المسلسلات الأمريكية والسينما الفرنسية‏..‏ وهذا هو معنى التقدم كما أخذه من التليفزيون ومن أفلام السينما ومن كبار المخرجين من حمله الأوسكار ونجوم الإغراء من صنّاع الموضات والأهواء . والمسئولية تقع على كل واحد فينا ابتداءً من وزير التربية والتعليم ونزولا إلى حلاق القرية ‏..‏ والاستعمار الفرنسي ومن بعده الانجليزي ومن بعده الأمريكي يحمل معظم الوزر ‏..‏ ولكن هذا المسلسل الغاشم من الغزو الأجنبي لا يكفي لإبراء ذمتنا ‏. والتخلف سبب آخر فنحن لم نعد ننتج المعرفة ، ولم نعد نبدع في العلوم والمخترعات، وإنما أصبحنا مستهلكين لما ينتج ولما يبدع غيرنا وناقلين لما يخترع الغرب ‏..‏ فدخلت علينا المخترعات الجديدة بأسمائها ‏..‏ الراديو، والتليفزيون، والتليفون، والميكروفون، والموتور، والفريجيدير، والآنسر ماشين، والفيديو، والكاميرا، والكومبيوتر، والإنتركوم، والانترنيت‏. ‏إن الإسلام لم يدخل علينا غازيا ‏..‏ لم يدخل علينا ليسلبنا كما يظن البعض‏ ..‏ بل دخل ليعيد إلينا ما فقد منا‏ . نحن بلاد علم وفلسفه وتاريخ ‏..‏ وحاله – الهيافة - الشائعة حاليا في ثقافتنا وفي تعليمنا وهذا الانحدار في لغتنا، والسوقية في أخلاقنا، والسطحية في تفكيرنا ، هي ظواهر غازيه وليست أصيله‏..‏ وهي بقع وقذارات من العالم الغربي، أصابتنا أثناء تسكعنا في أزقه نيويورك‏. ‏والقرآن العظيم في عطائه الإلهي وآياته التي تمكنت من شغاف قلوبنا، هي التي ستحفظ لغتنا العربية الجميلة، وهي التي ستحفظ قلوبنا من التردي، وهي التي ستروي بقيه الأصالة فينا‏..‏ إنها الحبل الممدود من رحمه الله لإنقاذنا‏. ‏إنها معركة حقيقية ومستمرة على جميع الأصعدة ‏..‏ على المستوى الديني، واللغوي، والاجتماعي، والعروبي، والوطني ‏. ‏ولكنها لن تنجح ..‏ لأن القرآن الشامخ في لغته‏,‏ الرفيع في معانيه‏,‏ التقدمي في تعاليمه، السمح في شرائعه‏,‏ الجميل في آياته ‏، سوف يقف سداً مانعا يتحطم عليه مكرهم‏.‏ فعندهم المباني‏ ..‏ وعندنا المعاني‏.‏ وعندهم علوم الدمار‏ .. (‏ وكان قوم عاد ينحتون الجبال‏..‏ وكان عندهم ما هو أبهى من نيويورك‏ ..‏ ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ‏..‏ هكذا يقول عنها رب العالمين ‏..‏ إنها لم يخلق مثلها في البلاد‏)‏ فذهبوا وذهبت عمارتهم ولم يبق لها أثر‏..‏ لابد إننا الآن في زمان عاد الثانية ‏(‏أمريكا‏)‏ وانه سيجري على الثانية ما جرى على الأولى‏ . يتبع ...‏

Dec 25, 2007

الصداقة .. والأصدقاء





الصداقة علاقة من أسمى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، تنفع الأصدقاء في الدنيا قبل الآخرة، وقد ينتج عنها رباط قوي بين الأصدقاء، وإن تباعدت أنسابهم، يفوق رباط النسب والقرابة. وما أجمل الصداقة إذا بُنيت على الحب الخالص المبّرأ من المنافع الشخصية، القائم على أساس من التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وهذا النوع من الصداقة يجلب للأصدقاء رضى الله تعالى ورحمته. أما الصداقة التي تُبنى على حب المنافع الشخصية، أو على عامل إفساد مشترك فهي نوع من التعاون على الإثم والعدوان، التي تجلب المضرة والحسرة في الدنيا والآخرة. قال تعالى " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " 67: سورة الزخرف . وبعد هذه العداوة الظاهرة يأتي الندم غير النافع والحسرة غير المفيدة في هذا المقام " يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا " 28: سورة الفرقان



ومجالات المنافع في عالم الأصدقاء متعدِّدة، ليست المنافع المادية إلا جزءاًَ صغيراً منها، فمن أهم ما ينفع به الصديق صديقه : راحة النفس، وانشراح الصدر، ونَفْضُ غبار الملل من رتابة الحياة وجمود العلاقات الإنسانية، والاستماع إلى كلمة مواسية، وأخرى مسلِّية، وثالثة معزِّية، ورابعة مهنِّئة
هكذا تصبح الصَّداقات في عالم البشر مهمَّة؛ لما فيها من الفوائد والمنافع التي تُدخل على قلب الإنسان السعادة
ولكنَّ هذه الصَّداقات لا تصفو لأصحابها بالصورة التي أشرنا إليها سابقاً، فهي إلى جانب ذلك من أبواب القلق، والخلافات، وخيبة الظن، ومن أسباب الانحراف في عقل الإنسان وسلوكه، ورؤيته للحياة، بل إن الصَّداقات من أخطر أسباب انحراف الإنسان وفساده حينما يكون اختيارُ الأَصدقاءِ خاطئاً، وتكون هنالك غفلة من الإنسان وممن حوله من أهله وذويه عن نوع الأصدقاء الذين يسير معهم



إنَّ تأثير الصديق على الصديق، قويٌّ عميق، لأن الصَّداقة بين شخصين أو أكثر تفتح مغاليق النفوس، وتقتحم أسرار القلوب، وتُتيح لها جانب «البوح» بين الأصدقاء بما لديهم من الأسرار فتكون بذلك مؤثرة تأثيراً مباشراً في حياتهم، ومن هنا تنشأ الشكوى بين الأصدقاء، وتنطلق الخلافات التي تُورثها بين الناس الصداقات الزائفة، والعلاقات المضطربة، ومن هنا أيضا كان بابُ التحذير من الصديق الحاقد، أو الحاسد الذي يعطيك من طرف اللسان حلاوة، ويروغ عنك كما يروغ الثعلب، باباً واسعاً في آداب الأمم كلِّها، وحكمها، وأشعارها، وأمثالها، ووصاياتها، وتوجيهات علمائها وحكمائها، ومن هنا أيضا كثر حديث أهل العلم والحكمة عن أوصاف الصديق الصَّدوق، الذي يرعى حقَّ الصداقة، ويحفظ جانب المودَّة، ولا يستغلُّ علاقته بصديقه في الإساءة إليه، أو الحصول منه على منافع شخصية إذا حصل عليها ألقى بصداقته وراء ظهره، وأصبحت صفات الحكمة، ورجاحة العقل، وصفاء السَّريرة، وكرم الطِّباع، وصدق الإيمان بالله عز وجلّ، والقناعة، والوفاء، من أهم الصفات التي ترشح حاملها لأن يكون صديقاً تطمئن إليه النفس

Dec 24, 2007

ثقافة الحب


من حق الحب علينا أن نعترف بوجود ثقافته التي تنعش ذاكرتنا وأرواحنا وحروفنا وسطورنا كعشاق كتاب وكلمة. السؤال الذي يطرح نفسه.. ماهي ثقافة الحب ؟ هل هو مجرد ريبورتاجات للتعرِّي فقط ؟ هل هو شعور مغذٍ لاحتياجات الفرد - الجسدية والعاطفية والنفسية والفكرية ؟ أمْ هو فن من فنون الوجود الاجتماعي ؟. فمنذ عهد آدم وحواء نمت جذور العواطف للتلاقح الجنسي، لتكتمل دورة الحياة، ويكون هناك إنجاب ذرية لتتشكل النواة البشرية الكبرى. وإذا اعتبرنا الفرد جزء صغير من هذه النواة، فإن علاقة الفرد بطرفه الآخر، لا تكتمل اجتماعياً إذا لم يكن هنالك إلقاح ذكوري. وكان لأساطير الحب والعشق دورها الكبير في تغذية العقل البشري نحو مفهوم الحب وشروطه ومقاييسه. ومع تطور الزمن تطورت العلاقات الاجتماعية بكل مجالاتها، وأصبحت نظرتنا للحب مخالفة تماماً لمفهومه الحقيقي الذي جعلنا ننحرف عن مساره المقدس، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لأنه أصبح عبارة عن حاجة جسدية، وإشباع رغبات جنسية فقط، هذا بدوره عطّل مفهوم الجمال الروحي، وخرّب ذاكرة الناس، مما أدى إلى تفشّي الانحراف عند أجيالنا ومن هم قائمون على تربية هذه الأجيال وحمايتها، وحتى تكتمل شروط ثقافة الحب، لا بد من وجود ثقافة الحرية، وثقافة التربية الاجتماعية، التي تقوم بنائية كل منهما على شروط قيمية أخلاقية. لأنه لا ثقافة للحب إن لم يكن هناك ثقافة للحرية الفردية منشؤها وقوامها الثقافة الاجتماعية . والمقصود بالثقافة الاجتماعية وعي الفرد لدوره الاجتماعي على صعيد الأسرة والشارع والحي والمجتمع، لكن هل يتحقق شرط الوعي الثقافي عند الفرد الواحد إن لم يكن منطلقاً من ذاته الحرة غير المقيدة؟ سؤال يستحق أن نقف عنده لنجيب على بعض التساؤلات.. إذن ما هي ثقافة الحب ؟ أو بمعنى آخر ، ما هو مفهومنا لثقافة الحب ؟ وهل يعيش الفرد الواحد حريته الاجتماعية من منظور ديني ؟ أمْ أخلاقي ؟ أمْ انفتاحي ؟ أمْ من خلال وجود الوعي لكلا المفهومين الحرية والأخلاق؟ في الحقيقة لا بد لنا من الاعتراف بتراجعنا الخطير حول هذه المسألة الهامة التي تشكل الأس الضروري لمصدر القوة والحضارة والتقدم في المجالات كافة وعلى الأصعدة جميعها. مسألة الوعي الاجتماعي الأخلاقي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة الحب، لأنه لا حياة من دون حب، ولا وجود للحب إن لم تكن هناك ثقافة لمعنى الحياة. ثمة سؤال جديد تتطرق له الذاكرة .. هل نعيش اليوم قصص حب حقيقية؟ لن يبدو الجواب غريباً، لأننا أغمضنا أعيننا عن هذه الحقيقة وبدأنا نعيش امتيازات الإمبراطورية الرومانية بكل جشعها وامتلاكها لحرية الفرد وقداسة الطهارة. الحب أصبح مثل كرة في ملعب، الداهية يحصي كم عدد نسائه ! والضعيفة تحصي كم عدد الشبان الذين يقفون لها على رصيف الشارع ! وعلاقات في الخفاء والعلن، إلى ما هنالك من أشياء أصبحنا نعرفها جميعاً، لكننا لا ننظر إلى خطورتها من منظور الوعي الذاتي الأخلاقي الاجتماعي، لأننا بلا إيمان روحي، وبلا ثقافة منشودة في ذواتنا.. انظر إلى غرف الدردشة.. والمواقع التي تفسد العقول وتخرب طهارة النفوس. انظر إلى علاقة الزوج بزوجته داخل بيته ، هل بقيت الأمور على حالها كما كانت في السابق، لا يترك الزوج زوجته إلا لأمر طارئ، والطوارئ اليوم أصبحت بعدد شعر رأس الإنسان أو بعدد خلايا جسمه الحية، لأن الحب أصبح عبارة عن نافذة لاستقبال العواطف، رغم حركتها، هي جامدة لأن أحاسيسها غير مقترنة بفعل الطهارة
وحتى نعرف كيف ننتصر على قوى الشر، علينا أن نعترف بوجود ثقافة الحب كشرط أساسي للتكامل الإنساني الاجتماعي بوعي من فهم الفرد لحريته الشخصية، وفي هذا لابد لنا من مراجعة أنفسنا والكثير من الأمور التي ضاعت مصداقيتها من بين أيدينا، كل هذا لأننا جمدنا العقل وتركنا القلب ينبض أمام نوافذ الحب، التي لن تجلب في النهاية على رأس الأمة العربية، سوى الأسف والندم، على الوقت الذي ضيعناه هباء، بلا فائدة، وبلا قيم أخلاقية، التي نحن بأمس الحاجة إلى وجودها في ذواتنا

Dec 23, 2007

الزواج .. والرزق



بدايةً أحب أن أعبِّر عن سعادتي عند كتابتي هذا الموضوع ولقائي معكم من خلال موقعي .. وأود أن أُعرِّفكم بنفسي .. أنا شاب لم أتجاوز الثلاثين من عمري، وقد تعمدت ذكر سني لأقول لكم إن عمري قريب من كثير ممن يقومون بقراءة مقالي الآن، فأنا شاب أعيش وسط الشباب، واحداً منهم، أعرف طموحاتهم وهمومهم، ما يسعدهم وما يقلقهم، والصعاب المحيطة بهم، وإيجابيات وسلبيات هذه المرحلة، والمشاكل الكثيرة التي قد يمر بها كثير منا، فهذا المقال من أخ محب قريبٌ من حياتكم

لا شك أن الزواج رزق ولا يملك الرزق إلا الله – سبحانه وتعالى - فهو المتحكم فيه وهو الذي يحدّد قدره وموعده، ومن الذي يستحقه، وكل ذلك مربوط بحكمة لا يعلمها إلا هو - عز وجل - علاّم الغيوب، وكيف لا، وهو القائل: "وفي السماء رزقكم وما توعدون" . ونحن إذ نتحدث عن الرزق يجب علينا أن نلتفت لما يجب علينا اتخاذه لكي يمن الله علينا برزقه ويبارك لنا فيه، والبداية تكمن في الاعتقاد اليقيني بأن الرزق من عند الله وأنه لا أحد من خلقه بقدرته أن يبسط الرزق لهذا.. أو أن يمنع الرزق عن ذاك، وإنما الكل أسباب يسببها الله ويضعها في طريقنا لكي تكون باباً يأتي الرزق منها إلينا. ثم علينا أن نتيقن من أن كل شيء بكتاب، وأن لكل شيء أجله، فقد يؤخر الله الرزق لحكمة لا يعلمها إلا هو، وقد يبكِّر من مجيئه لحكمة أيضا لا يعرفها إلا غيره سبحانه


وإذا ما ذهبنا للحديث عن الزواج، فمعلومٌ أن في الزواج حكماً كثيرة، أهمها تغذية النفس بما بها من حاجة للحب والسكن والطمأنينة والمودة والرحمة، والعمل على صيانة النوع الإنساني بالتناسل والتكاثر
ألم تفكر مثلا، لماذا تُحب أن تقابل هذه الفتاة وأن تتحدث معها ؟ ألا تدري لماذا تسعد حين تسأل عنك ؟ ألا تعرف لماذا تطرب لكلماتها وتهنأ بنظراتها، وتكاد تطير من الفرح حين تلتقي عينك بعينها ؟
ألم تفكري في سبب لشعوركِ حين تجدين من يُوحي إليكِ بأنه مسئولٌ عنكِ، وأنه قادر على صيانتكِ وحمايتكِ؟ ألم تجدي ما يبرر سعادتك للقياه وبهجتك بكلماته ونظراته؟
إن السبب في ذلك هو أنك محتاج لهذا بحكم الفطرة، فبداخل كل منا ما يشعرنا بالاحتياج لكل ذلك، ولهذا وضع الله لنا الحل.. إنه الزواج

والسؤال الآن: لقد أصبح الزواج – في ظل الظروف القاسية التي نعيشها - صعبا، فكيف لنا أن نوفر كل احتياجاته ومتطلباته؟
يا أخي .. ويا أختي .. ألم نتفق على أن الزواج رزق؟ إذن فلنطبق فيه ما تحدثنا عنه في الرزق .. تيقن بأنه من عند الله، وأن موعده مكتوب عنده منذ الأزل، واصبر فإن الله سيكافئك على صبرك، ولا تتعجل الرزق – ألا وهو الزواج - بارتكاب المعاصي
انظر حولك .. إن الكثيرين منا لعدم وجود اعتقاد يقيني عندهم بأن الزواج رزق من عند الله، كثيراً ما يقعون في الزلل ويستعجلون الرزق بارتكاب المعاصي .. أليس في الزواج العرفي والعلاقات المحرمة مما يُعدْ كذلك ؟ ثم انظر إلى حال ًهؤلاء وستجد أن الله يُمنع عنهم الرزق بعد ذلك.. وقد يعطيهم إياه ولكنه لا يُبارك لهم فيه.. وقد يبُارك لهم فيه رغبة في هدايتهم، فإما يهتدون ويصلح حالهم، وإما يتمادون فيكون عذاب الله شديداً عليهم
أما من يصبر محارباً لشهواته ولذّّاته، غاضاً بصره عن كل ما يثيرها، فإن الله يجعل المكافأة سريعا.. انظر لكل من تزوجوا حولك واسألهم .. ستجد الإجابة واحدة : "حين نويت الزواج بحق، ساعدني ربي وفتح عليّ أبواباً للرزق من عنده " . إذاً اجعل نيتك خالصة لوجه الله، وتيقن أن الرزق قادمٌ من عند الله لا محالة، مؤمناً بأن لكلِ شيء أجلاً، واعمل قدر
ما تستطيع على أن تكون قادراً على القيام بمسئوليات الزواج من ناحية، ومحارباً لشهواتك من ناحية أخرى

وفقنا الله لما فيه الخير

Dec 22, 2007

رسالة خاصة.. إلى أمي


دعيني أفضحُ نفسي
دعيني أبوحُ لكِ ما في قلبي
فإن لم تتكلم شفاهي
ليس من الصعب أن تنطق عيناي
دعيني اكشفُ نفسي .. لأريكِ مدى حبي وحناني وعاطفتي
فمهما أحببتكِ .. فلن أعوض عن مدى حبكِ لي
ومهما كنتُ حنونا .. فلن أجد أكثر منكِ حناناً
ومهما عطفت عليكِ .. لن أستطيع أن أعطف مثلما كنتِ تعطفين عليّ
يا والدتي .. يا من اسقيتيني من نهديكِ الشهدَ والعسل
ويا من بلمساتك كان يذوبُ الحجر
وبنظراتكِ كان ينحني الجبل
يا والدتي .. اعذريني إن لم استطع إرجاع قسما من حبكِ
فإني مهما فعلت وحاولت .. أعرف أني لن أستطيع
ولأني من دونكِ .. لم أكن أعلمُ معنى هذه الحياة
لأني وجدتُ فيها الحبَ والأمل
ومهما قلت وكتبت فهذا جزءٌ صغيرٌ من ديوني
فأرجوكِ اقبلي مني هذا الدين البسيط
فأنتِ روحي وقلبي ودمي الذي يجري في شراييني
يا والدتي .. احبكِ بقدر كل الكون
وهذا قليلٌ لكِ

Dec 16, 2007

معاني العيد ومقاصده .. أسرار وأسرار



إن العيد مظهر من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكم عظيمه، ومعانٍ جليلة، وأسرار

بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها


فالعيد في معناه الديني شكر لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلج في سرائره رضا واطمئنانا، وتنبلج قي علانيته فرحا وابتهاجا، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة

والعيد في معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوة الغني، وضعف الفقير على محبه ورحمة وعدالة من وحيّ السماء، عنوانها الزكاة والإحسان، والتوسعة
يتجلى العيد على الغني المترف، فينسى تعلقه بالمال، وينزل من عليائه متواضعا للحق وللخلق، ويذكر أن كل من حوله إخوانه وأعوانه، فيمحو إساءة عام بإحسان يوم
يتجلى العيد على الفقير المترب، فيطرح همومه، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامه، وينسى مكاره العام ومتاعبه، وتمحو بشاشة العيد آثار الحقد والتبرم من نفسه، وتنهزم لديه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء

والعيد في معناه النفسي حد فاصل بين تقييد تخضع له النفس، وتسكن إليه الجوارح، وبين انطلاق تنفتح له اللهوات

وتتنبه له الشهوات


والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خصصت لنسيان الهموم، واطراح الكلف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة

والعيد في معناه الاجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، ويوم الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض
وفي هذا كله تجديد للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، والإخاء
وفيه أروع ما يضفي على القلوب من الأنس، وعلى النفوس من البهجة، وعلى الأجسام من الراحة
وفيه من المغزى الاجتماعي - أيضا - تذكير لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين؛ حتى تشمل الفرحة بالعيد كل بيت، وتعم النعمة كل أسرة
وإلى هذا المعنى الاجتماعي يرمز تشريع صدقة الفطر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى؛ فإن في تقديم ذلك قبل العيد أو في أيامه إطلاقا للأيدي الخيرة في مجال الخير؛ فلا تشرق شمس العيد إلا والبسمة تعلو كل شفاه، والبهجة تغمر كل قلب

في العيد يستروح الأشقياء ريح السعادة، ويتنفس المختنقون في جو من السعة، وفيه يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعم الواجدون بأطايبه

في العيد تسلس النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وتهش النفوس الكزه إلى الإحسان

في العيد أحكام تقمع الهوى، من ورائها حكم تغذي العقل، ومن تحتها أسرار تصفي النفس، ومن بين يديها ذكريات تثمر التأسي في الحق والخير، وفي طيها عبر تجلي الحقائق، وموازين تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر،
ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة، وإصلاح الشأن، ودروس تطبيقية عالية في التضحية، والإيثار، والمحبة

في العيد تظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها

في العيد تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي
في العيد تنطلق السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها

العيد في الإسلام سكينة ووقار، وتعظيم للواحد القهار، وبُعد عن أسباب الهلكة ودخول النار
والعيد مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات، ومجال منافسة في المكرمات
ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كل واحد من عيديه العظيمين بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحها المهابة بالخير والإحسان والبر والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة صالحة للوجود، نافعة في الوجود إلا بها
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه
فهذا الربط الإلهي بين العيدين، وبين هاتين الشعيرتين كاف في الحكم عليهما، وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شُرع فيهما من سنن، بل حتى ما ندب إليه الدين فيهما من أمور ظاهرها أنها دنيوية كالتجمل، والتحلي، والتطيب، والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح واختيار المناعم والأطايب، واللهو مما لا يخرج إلى حد السرف، والتغالي، والتفاخر المذموم؛ فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسنت النية؛ فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية، وأُريد بها تحقق حكمة الله، أو شكر نعمته انقلبت قربات
كلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جمال، وجلال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع؟ فوخزته الخضرة
وليس السر في العيد يومه الذي يبتدئ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السر فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وأفضال، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد لا اليوم نفسه
هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام، وكما يحققها المسلمون الصادقون؟ فأين نحن اليوم من هذه الأعياد ؟ وأين هذه الأعياد منا ؟ وما نصيبنا من هذه المعاني ؟ وأين آثار العبادة من آثار العادة في أعيادنا؟

إن مما يُؤسف عليه أن بعض المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تجهم الأحداث، وبالبشر مع شدة الأحوال ؟ فأصبح بعض المسلمين - وإن شئت فقل: كثير منهم - يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحس بليد، وشعور بارد، وأسرة عابسة، حتى لكأن العيد عملية تجارية تتبع الخصب والجد، وتتأثر بالعسر واليسر، والنفاق والكساد، لا صبغة روحيه تؤثر ولا تتأثر
ولئن كان من حق العيد أن نبهج به ونفرح وكان من حقنا أن نتبادل به التهاني، ونطرح الهموم، ونتهادى البشائر، فإن حقوق إخواننا المشردين المعذبين شرقا وغربا تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونعنى بقضاياهم ونهتم ؟ فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكا متعاونا متراحما، حتى ليخفق فيه كل قلب بالحب، والبر، والرحمة، ويذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات
ولا يُراد من ذلك تذارف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه أيضا أن يعتكف الإنسان كما يعتكف المرزوء بفقد حبيب أو قريب، ولا أن يمتنع عن الطعام كما يفعل الصائم
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادنا بمظهر الأمة الواعية التي تلزم الاعتدال في سرائها وضرائها؟ فلا يحول احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريق من أبنائها
ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وإنفاقنا؛ لنوفر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي
ويُراد من ذلك – أيضا - أن نشعر بالإخاء قويا في أيام العيد ؟ فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم، ويشحذ الهمم، ويبسط الأيدي بالبذل، ويطلق الألسنة بالدعاء ؟ فهذا هو الحزن المجدي الذي يترجم إلى عمل واقعي

أيها المسلم المستبشر بالعيد

لا شك أن تستعد أو قد استعددت للعيد أباً كنت، أو أمًّا، أو شاباً، أو فتاة، ولا ريب أنك قد أخذت أهبتك لكل ما يستلزمه العيد من لباس، وطعام ونحوه ؟ فأضف إلى ذلك استعدادا تنال به شكورا، وتزداد به صحيفتك نورا، استعدادا هو أكرم عند الله، وأجدر في نظر الأخوة والمروءة
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء، والمعدمين، من جيران، أو أقربين أو نحوهم ؟ فتش عن هؤلاء، وسل عن حاجاتهم، وبادر في إدخال السرور إلى قلوبهم. وإن لم يسعدك المال فلا أقل من أن يسعدك المقال بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، والخفقة الطاهرة
وتذكر في صبيحة العيد، وأنت تقبل على والديك، وتأنس بزوجك، وإخوانك وأولادك، وأحبابك، وأقربائك، فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ، والشراب الطيب، تذكر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنان الأب، وأيامى قد فقدن ابتسامة الزوج، وآباء وأمهات حرموا أولادهم، وجموعا كاثرة من إخوانك شردهم الطغيان، ومزقهم كل ممزق؟ فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع، ويكتوون بالنار، ويفقدون طعم الراحة والاستقرار
وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل، ومنزلك الواسع، وفراشك الوثير تذكر إخوانا لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، ويتضورون في العراء
واستحضر أنك حين تأسو جراحهم، وتسعى لسد حاجتهم أنك إنما تسد حاجتك، وتأسو جراحك (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)، و(من عمل صالحا فلنفسه) و"من نقس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفسن الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، و"من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم"، و"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر



بارك الله للمسلمين عيدهم، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم


وكل عام وأنتم بخير

Dec 14, 2007

الحج .. محطة ربانية




(1)



لم يفرح في عمره كتلك الفرحة التي انتشلت ذلك القلب الكليم من أحزانه لتجعله يستعد للرحيل .. ليس من دنياه ولكن إلى بيت الله العتيق .. طار منه الفؤاد .. جاءه الخبر فلم يتمالك نفسه من الفرحة .. مضت ليلته تلك عصيبة أشد ماتكون .. ليلة لم يذق مشاعرها عمره كله .. مشاعر مختلطة .. حزنٌ وفرحٌ وخوفٌ وهيبة ... هو لايعرف من أين يبدأ وكيف يبدأ في سرد شعورٍ يعتلج في داخله، تبعثرت الحروف والكلمات .. وعبّرت دموع الفرح مجيبةً لنداء المولى عزوجل .. كل مايعرفه .. أنه في تلك الليلة استسلم للنوم بعد أن أنهكه التفكير الطويل .. وقد ذلّ منه اللسان بحروف ٍ مصفوفة بإتقان راجية داعية
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك




(2)



كان الفؤاد في حالة ٍ من الذهول تضيق العبارة فيها عن الوصف .. تزاحمت الأفكار .. وتناثرت .. وأخذت تعصر الفؤاد بقوة تحثهُ على استجلاب شعور الصدق كأن حقيقة الصدق سقطت عاجزة أمام ما ينتظرها .. أتراه يستطيع أن يتحرر من كل شيء ويترك كل شيء من أجل مولاه ..!!! إنه سيذهب .. وربما لايعود .. إنه سيرحل إلى مولاه عارياً من أردية الهوى .. إنه سيجيب نداء مولاه .. الذي دعاه للتحرر من قيوده التي أقعدته وقطعت عليه الطريق سنوات ٍ طويلة ... هو يعرف ذلك كله .. الذي يؤرقه .. ويُذهب لذة النوم من عينه، أن زمان الرحيل قد أزف .. والصدق يتفلت من فؤاده .. ويستعصي مثولاً ليواطىء اللسان
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك
عبارة زلزلت فؤاده فحلت أطناب الكذب .. كم يحتاج أن يكون صادقاً .. كم يحتاج في هذه اللحظة أن يلبي بكل قوة وهو يمضي إلى مقصده بعزيمة وقوة دون تردد .. كم يحتاج أن يسير في طريقه مع الراحلين إلى البيت العتيق وقد تساقطت أهواؤه على جنبات الطريق




(3)




بين معاني النداء والاستجابة أمضى يومه يفكر .. نداء ربه له أن يلبي ويجيب فيمتثل طائعاً مخبتاً متحرراً من كل قيد ٍ متجاوزاً لكل العوائق التي تعرض له في طريقه .. واستجابته لذلك النداء ..أتراه يستطيع أن يلبي بكل صدق .. أتراها الكلمات تخرج من فيه بيسر ٍ وسهولة .. لا .. هذه المرة تردد كثيراً .. تردد أن يلبي لسانه ولم يواطىء قلبه في تلبيته .. كلمات أبى الفؤاد أن يعطيها جواز مرور إن لم تُكلل بالصدق والوفاء يااااااه .. ما أقسى الامتحان وما أصعبه على النفس!!! أن تنتشل النفس من لهوها وما اعتادت لتقيمها في طريقها إلى الله مذعنة منكسرة .. ملبية ... كان امتحاناً صعباً .. لم يمر بمثله .. لكنه حاول جاهداً أن يتخطاه .. اقتربت أيام السفر .. فاجأته وهو حتى الآن في دوامة الصدق ينظر إلى خط البداية .. تُرى من أين يبدأ ؟؟؟



(4)




تُرى لو أمضى عامه كله أيستطيع أن يستجلب الصدق من جنبات فؤاده الذي يمرّ الآن باقسى وأصعب امتحان ..؟؟ هاهو الوقت يمضي ويتفلت منه زمانه وهو قائم يراوح بين قدميه يراشي الصدق أن يمتثل وقوفاً أمامه ..!! أتراه الصدق يُحسن ادعاءً إن لم يمر على كير الامتحان ..!!! ما كان منه إلا أن يستسلم .. ويتوكل .. ومضى ملبياً داعياً راجياً أن يكون هو ذلك العبد الصالح الذي يرجو أن يكون .. كأنما أُلقيّ في فلاة .. من غير زاد .. في ظلمة الليل البهيم .. وعليه أن يوقد مصابيحه ... في ليلته تلك .. أضاءت في سمائه نجمة .. فسرّه مرآها .. لمعت ببريقها وكأنها تدعوه لعلو .. سار تابعاً ذلك البريق وقد سكنتْ منه النفس .. وذل منه اللسان ملبياً ... وقد سبقه قلبه مع الراحلين إلى بيت الله العتيق

لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك


(5)




كاد القلب يفرُّ منه حين صعد الحافلة .. ومضى مع من مضى في طريقه ليقضي يوم التروية في منى .. أنكر نفسه .. كأنما هو ذاهبٌ إلى مكان لايعرفه . ولايعرف ُ نفسه كيف تكون !!! كأنما خُطفَ من دنياه و أُجبر على الرحيل إلى مكان ٍ من الآخرة - هكذا شعر - رحلة كانت تكتنفُ لحظاتها الهيبة والخشوع .. كان يلبّي مع من يلبّي .. صوتُ تلبيته يعلو تارة وينخفض أخرى تبعاً لمشاعره المضطربة .. كان يراقب عبر زجاج النافذة تلك الأفواج السائرة إلى الله .. في هيئة واحدة .. يرتسم على مظهرها خطوط سكون وعلامات افتقار .. ومسكنة .. وكلها تسير نحو هدفٍ واحد ومقصدها واحد .. حدّث نفسه ... " تُرى ماذا يرجون ؟؟ ماذا يريدون ؟؟ مم يخافون ؟؟ " عادَ للتلبية ليخفف عن نفسه هيبة الوصول والتلاقي .. إنّه في ضيافة الرحمن .. تُرى كيف سيكون حال الضيف في دار مُضيفه ..؟؟ مجرد التفكير بهذه المشاعر أقلقه .. فأعاده صوت الملبين إلى شعوره الذي حاول الفرار منه ... " لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك " أخذ يردد معهم . تلك الكلمات الشجية التي استخرجت من نفسه الكثير ... فلم يتمالك نفسه ... فانفجر باكياً ... وصورٌ لمعاني التلبية تتعارك في رأسه .. لتعصر ذلك القلب الضعيف كي تتجلى له معانٍ عظيمة..لم يقرأها من قبل..ولم يفهمها.. لكنه الدرس الحي ..!!! أخذ يردد بكل قوة وثبات مع الملبِّين ..لبّيك وسعديك والخير كله بيديك والشرُّ ليس إليك أنا بك وإليك... لبيك مولاي..لبيك .. ها أنا أجبت دعوتك .. مرة بعد مرة .. أعاهدك على أن أُقيم على الطاعة ماحييت .. أجبتُ نداءك .. واستجبتُ لدعاءك .. وأنا بحاجة إليك وأنت غنيٌ عنّي ..لبيك ماحييت .. لبيك مابقيت .. لبيك ولك الفضل أن ألبي لبيك .. ولك الحمد على أن دعوتني .. لبيك ياذا المن والفضل .. لبيك يامولاي فامنُن على من سارَ إليك




(6)




آهٍ .. يامنى، يادياراً سكن الفؤاد بها ,فتركته فيها رغم أنه قد ارتحل.. ليلك يامنى ليل العابدين الساهرين .. ليلكِ يامنى ليل الذاكرين المستغفرين أوَ كان ليلاً يامنى !!.. أوَ كان يامنى يوماً من الزمن !!.. كان نوراً أشرق في القلوب فاستحالت سمائك نورانية .. أينما التفتَ في ذلك المخيّم إلا ووجد من يناجي ربه بلغة متفرّدة كلٌ له طريقته .. فهذا قارىء، وهذا مستغفر، وهذا مصلٍ .. هذا كبيرٌ وهذا صغير .. وهذا يتقلب في فراشه ثم يقوم ناصباً قدميه يناجي ربه .. وهذا مقعد الجسد حي الروح واللسان .. لايغمض له جفن .. ما أجمل سهر العابدين .. وما أجمل أحاديثهم .. وما أجمل صحبتهم ورفقتهم .. ليلة أضاء فيها نور القمر في السماء قبل منتصف الشهر بل أضاء في قلبه وقلب كل عابدٍ خاشع .. فأمست ليلة .. قدسية تغشاها المهابة .. ليلة من تلك الليالي المعدودات تحكي أعماراً ممتدة من عمر الزمن




(7)





هيبة جللت هذا الصباح .. فترددت الخطوات في سيرها .. كأنما هو يوم لابد أن تخلع فيه كل رداء زيف لتقبل على مولاك بدون ألوان .. أبيضاً طاهراً نقياً .. سارت به الحافلة .. ليتجه إلى عرفات .. عرفات الله .. التي كان يبكي نفسه فيها كل عام حالماً بلقيا ولقاء .. ها هوالآن يحقق حلمه فيطأ بقدميه صعيد عرفات .. ترآءت له صورة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو ينفر من منى إلى عرفات .. راكباً ناقته الآن ممسكاً بخطامها .. يسير مع صحبه السائرين .. اغرورقت عيناه لهيبة الموقف فلم يتمالك نفسه لجميل الذكرى .. وعاد ملبياً ليستجمع شيئاً من قوة .. ليوم ٍ من أيام الدنيا .. ليس ككل الأيام .. كيف لا .. وهو يوم نزول الربّ ..!!!!! ارتعدت فرائصه .. لمّا استشعر نزول الرب وجلاله وهيبته .. فانتفض كما طير صغير كسير الجناح .. وعبارة تتردد في ذهنه " ينزل ربكم عشية عرفة "..." ينزل ربكم عشية عرفة " " ينزل ربكم عشية عرفة ".. ما أعظم النازل سبحانه .. وما أعظم النزول !!! أفكارٌ أخذت تتزاحم في رأسه.. وخوف ٌ من أن يكون محروماً في هذا اليوم ورجاءٌ يبدد ذلك الخوف .. في يوم ٍ يباهي الله به ملائكته .. فيقول : انظروا لعبادي هؤلاء .. أتوني شعثاً غبراً .. أشهدكم أني قد غفرتُ لهم

Dec 12, 2007

سياحة روحية



نحن في عصر تزينت فيه الشهوات، وتنوعت فيه الشبهات، وتزايدت المغريات، وكثُرت الملهيات، حتى كادت معها أن تعمي القلوب، وتموت الأرواح، والمسلم اليوم يبحث عن لذة الروح، وخشوع القلب، ودموع العين، فلا يجد من ذلك إلا أقل القليل، فأين قوت القلوب وغذاء الأرواح ؟ وأين لذة العبادة، وحلاوة الطاعة ؟ وأين ترطيب الألسنة بالأذكار؟ وأين الاستغفار بالأسحار؟ ومن ثم أين صفاء النفوس والسرائر؟ وأين جلاء القلوب والبصائر؟ ومن بعد أين حُسن الأقوال وصلاح الأعمال وصدق الأحوال؟ إنه لا بد من استشعار الخطر، ومعرفة الأثر، فإن داء القلوب أشد فتكاً وأعظم ضرراً، وإن هزال الأرواح وكدر النفوس بلية البلايا ورزية الرزايا، والعجيب أن هذا الخطر الماحق لا يفطن له كثيرون، ولا يشعرون به، إنهم رغم أدواء قلوبهم، وعلل نفوسهم يمضون في حياتهم كأن شيئاً لم يكن، وكأنهم لم يفقدوا شيئاً ويتحسرون عليه، مع أنهم في أعظم خطر وأكبر خسارة في شيء أجلّ وأمرّ ألا وهو صلتهم بالله، وصدق من قال:" من فقد الله فماذا وجد؟ " ومن وجد الله فماذا فقط ؟ " ولله دُر ابن القيم عن هذه الحال فقال : " ومن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأُنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض" ، حقاً إنه لأمر عجيب بل هو أعجب العجاب، كيف يسعد مَنْ قلبه قاسٍ خرب؟ ، " اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن .. فسل الله أن يمُن عليك بقلب فإنه لا قلب لك


الله أكبر كم للقلوب في تلك المواطن من موات وغفلة، فكيف إذن يعيش ويحيا من لا قلب له ؟. كلما عرض عارض صحي التمس الناس له الشفاء، وبحثوا عن الدواء، والتزموا الحمية، وصبروا على العلاج، ومع ذلك فإنهم عن داء قلوبهم وسلامتها غافلون، " والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحميّة، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويُعرى كما يُعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة " ، فأين المؤمنون من علاج أدواء قلوبهم وجلائها وزينتها وحسن كسائها


إن الحكام العادلين والعلماء العاملين والدعاة المصلحين والقادة الفاتحين كانوا أهل قلوب وأرواح، من المحراب انطلقوا، وبالسجود والذل لله ارتفعوا، وبزاد الإيمان والتُقى انتفعوا، وبصدق التوكل واليقين انتصروا، وبكمال الإخلاص والتجرد اشتهروا. وكلهم كانوا : إذا سجى الليل قاموه، وأعينهم من خشية الله باكية .. فهم الرجال الذين لا يلهيهم لعـب عن الصلاة، وصدق الله القائل :"رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" [النور:37]. معشر الدعاة يا من تتصدرون المجالس، وترتقون المنابر، وتتصدون للوعظ والإرشاد، وتقصدون هداية العباد، ألا ترون أن هناك فرقاً كبيراً، وبوناً عظيماً بين هذه الصفة، صفة الصفوة والحقيقة اللازمة لها، فأنت أيها الداعية ينبغي أن تكون أحيا الناس قلباً، وأصفاهم نفساً، وأخلصهم قصداً، وأسرعهم عبرة، وأكثرهم خشية، وأصدقهم توكلاً، فهل ذلك حقاً هو ما تتصف به؟ ألا تعترف بأن الحال ليس كما ينبغي، وأن من الدعاة من ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، وعيونهم جامدة، أفلست بحاجة ماسة إلى مكاشفة صريحة، ومراجعة دائمة، وخذ هذا الوصف من سيد من سادات الدعاة والعلماء، الحسن البصري يقول في وصف الصفوة:"حسنت ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تبارك وتعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا أو كرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين لرضا الخالق، شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا أنفسهم لله حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم " وأزيدك من كلامه مزيداً من الصفات حيث يقول: " قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ولكن خالطهم ذكر الله أمر عظيم " ، أين أنتم معاشر الدعاة من هذه الصفات، وتلك المقامات، وكثيرون قد استكثروا من المباحات، وشغلوا بالأبناء والزوجات، وألفوا الكسل، وعافوا العمل، حتى ركنت لذلك نفوسهم، وقنعت به همومهم، وذلك نتيجة حتمية لمن ترك تزكية النفس بالطاعات، وطهارة القلب بالقربات، ومن المعلوم " إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورضها وسسها على المكروه الأحسن، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ كل صغيرة، علمها التحليق تكره الإسفاف، عرفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة " ، وخذها أخيراً من علمِ الدعوة المعاصرة حسن البنا يوصيك قائلا :" لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام والخليون هجع، وقد سكن الليل كله وأرخى سدوله وغابت نجومه فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك، وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، فيطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك إلى من لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وآمالك وأمانيك، ووطنك وعشيرتك، ونفسك وإخوتك، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم

Dec 11, 2007

احترز .. وكن من أهلها




حياة الروح .. وروح الحياة .. ما أجلها وما أجملها .. عظيمة رفيعة .. تنبض لها القلوب .. وتختلج بها الجوارح .. تسيطر على الجسد فتجعله يسمو ويعلو .. تعمر القلب فتجعله ساكناً مطمئناً.. مَنْ! َمنْ يستطيع أن يعيش بدونك؟ كيف تحلو الحياة إلا بك
من يتعلق بك تتعلقين به، ومن يشدك تشديه، طبعك الوفاء، وفيَّة أنتِ لأصحابك
ليس في الدنيا بأسرها وفياً مثلكِ، وليس في الكون أعظم من نفحاتك، سرور القلب ونوره الذي لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا
أنت حياة المؤمن الطاهرة، ودواء السقيم والعليل، أنتِ نور البصائر من عماها ، وشفاء الصدور من أدوائها
لولاكِ! لما تفرقت الهموم والأحزان .. لولاك لهاجمتنا جيوش الشياطين ، ولتقطعت بنا الأسباب . أنتِ الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون .. ويشمِّر لها العاملون
أنتِ القائدة التي تقودين صاحبك إلى جنات النعيم .. لست أدري! كيف يقدرون على هجركِ
كيف يعيشون بلا وصلكِ! كيف يتمتعون بغيركِ
لستُ أدري كيف هي مشاعرهم؟ ماذا تختلج به صدورهم؟ مَنْ؟ مَنْ هجروكِ
كيف يستريحون إلى جانب غير جنابكِ
أنتِ القلعة العظيمة التي ندخل منها على رب الأرباب، وخالق البريات

لقد شاءت إرادة الحكيم العليم أن يخلق البشر، ويمنحهم العقل الذي يرجحون به الهدى من الضلال، ثم وضع لهم ميزان الشريعة وثبته كي لا تعصف به الأهواء
وهنا أُسائل نفسي : كيف تكون بُنية إسلامية سوية، لا معطلة ولا مشوهة، بل بكامل قواها وعافيتها وعقلها، وتعرض عن الحق، ولا تستجيب لنداء الإيمان .. بل تختار لنفسها الصد والبعد والانحياد عن سبيل الرشدإن . إنسانية المسلم ترفض الجمود .. فلا تضع على عقلها قيداً من الفتور، ولا تدع قلبها مغلقاً عن تدبر المواعظ والآيات، فيكون حالها كحال الذين قال الله فيهم - مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ

يا مسلم .. يا مَنْ تشهد أن لا إله إلا الله .. لقد خُلق الإنسان ليسعى .. لا ليكون نائماً هائماً يقوده هواه كما يٌقاد البعير
إن الحياة والعافية والنعمة الرغيدة التي تعيشها وتستمتع بها دون أن تلتفت إليها، وأعني بها نعمة الإسلام التي هي أكبر من كل نعمة .. هيّ إحسانٌ من الله عليك وتفضلاً منه لك، فذلك يتطلب منك أن تكون شاكراً للمنعم، ولا تستطيع أن تحصي ثناءً عليه
إن الساهي عن عبادة ربه عاجز لا يصل إلى أغراضه، ولا يحقق رغائبه..أما أولئك الواصلون إلى مراميهم بالأماني والأحلام وهم لا يتقربون إلى خالقهم بالصلاة فلابد أن تدمي أقدامهم وعورة الطريق كلما اجتاز عقبة وقع في أخرى هذا في الدنيا ثم في الآخرة سيُكتوون بنار الخذلان عياذاً بالله. فلم نر أو نسمع عن مسلم قعد عن الصلاة إلا داسته الحياة ونبذته وألقته على هامشها

إلى متى ستظل تائهاً عن الطريق؟ ألست تبحث عن السكون والراحة؟ إلى متى ستظل تملك نفساً مختلة تسيطر عليها الوساوس، وتنهكها العلل؟ إلى متى؟ إلى أن تكتشف خسارتك؟
عندما تجد ما عملته من سوء ماثلاً أمامك، يقول الله تعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}
(30) سورة آل عمران
كم أتمنى أن أتجول في داخل مسلم لا يصلي، كيف يعيش؟ لابد أنه يعيش بداخل مظلم؟ معوّج، مضطرب. ما الذي يضئ داخلك، وخارجك وجوارحك؟ كيف تعيش بدون وصل الحبيب الذي يستحق الحب والوصل، لقد أوصاك بوصل قريبك ووالديك وأحبابك .. فكيف بوصله! قرة عين المحبين، ونعيمهم، ولذة حياتهم في مناجاته
أنت ترى ظلمك لنفسك في تخليك عن الصلاة، وتدرك خطرها، ويسوؤك من يتهاون بها من أقرانك أو ممن هم دونك.. فإلى متى .. إلى متى تخبط في الدنيا خبط عشواء؟ إلى متى تسير كما يحلو لك دون حساب للرقيب، غافلاً عن معرفة الحق؟
إن من حق الله عليك أن تتوجه إليه بعبادته، وأعظمها الصلاة .. إنك تعرف وتدرك! ومن حقه جلَ شأنه أن يغضب على من يقطع صلته به .. إذا عرف وانحرف، وأدرك واقترف بمَ شُغلت عن ربك ؟ وبماذا تشتغل الآن ؟ هل الصلاة مشقة وعذاب ؟ هل الصلاة تعب وعناء ؟ إنّ كثيراً من أعمال الدنيا أشد مشقة وأكثر عناء وجهداً. بالله عليك " كم تأخذ الصلاة من وقتنا في اليوم والليلة، ساعة أو أقل أو أكثر قليلاً، مقابل ماذا ؟ مقابل أن يعطيك الله من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، انظر إلى سائقي الشاحنات، وانظر إلى الحداد والغواص، والبنّاء الذي يعاني برد الشتاء وحر الصيف .. وغيرهم كثير ممن يبذلون الجهد الجهيد في كسب العيش. إن كنت ستجيب .. أن الصلاة مشقة، فقد نوافقك قليلاً، ولكنها مشقة ممزوجة باللذة، وإن ثقُلت عليك تذكر نعيمها الذي لا يساويه نعيم، فالدنيا كلها تتهاوى عندما يفقد المسلم صلاته .. ويتحقق له الرقي والفلاح عندما يكون من المصلين

سأطرح عليك سؤالاً قد تتعجب منه! هل تريد الجنة؟ ستقول نعم، وبتعجب! كيف؟ وأين الثمن؟ أنظر إلى الرزق، هل يمطر عليك من السماء؟ إن لم تسعى له وتتعاهده، كذلك الجنة .. تحتاج إلى بذل وسعي، فعندما طلب ربيعة بن كعب رضي الله عنه مرافقته صلى الله عليه في الجنة، قال له: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود" والله جل شأنه يقول: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إن الله يدعوك إلى دار السلام يقول سبحانه {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}، ثم رضوان اللــه عليك أكبر من الجنة وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ . ثم النظر إلى وجهه العظيم نسأله ألا يحرمنا فضله ـ ففي الحديث الصحيح : حديث الرؤية: "فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه" فإذا رأوا وجه اللــه نسوا ماهم فيه من النعيم .. ألا تريد رؤية ربك الحبيب؟ أترجو الرحمة والمغفرة؟ إن هذا جهل مركب وليس بسيط
فالله تعالى يقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ويقول تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} لماذا لا تريد أن تدخل تحت ظلال رحمته؟ أتخشى الله وتخافه؟ كأني بك ستقول نعم ! بمـــاذا ؟ فإن للخوف ثمرات، تهون بها اللذات، وتقود القلب إلى رب البريات، وأنت تعلم أن الله لو أراد أن يهلك العالمين لم يبال .. وما أهون العباد لديه إذا هم عصوه. ومن يخاف يحذر .. يحذر من بطشه وعقابه
يقول عليه الصلاة والسلام: " أنا أعرفكم باللــه وأشدكم له خشية ". إن الاستخفاف بفريضة الله عليك وتفريطك لها، وضعف إرادتك، هو لأنك أسقطت خوفك وتعظيمك له سبحانه، وبهذا سُلبت محبته ورضاه. تعَّرف إلى الله، فمتى عرفته عظّمته، ومتى عظّمته خشيته، وإذا خشيته عبدته وأحببته. الصلاة راحة أعصاب من أعباء الحياة المرهقة، وطمأنينة القلوب التي عهدت بأعبائها إلى من هو أقوى وأقدر .. واستشعار صلة بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من اعتصم به. إنها مهذبة للسلوك الإنساني، متممة له
إنك بحاجة إلى الشكوى .. تشتكي لمَنْ؟ للمخلوقين؟ إنك بحاجة إلى الرحمة .. تسترحم مَنْ ؟ الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ... إذا ضاقت بك الدنيا ... تلجأ إلى مَنْ ؟ إلى ضعاف الخلق .. إذا أثقـلتك الهموم والأحزان ... تنادي َمَنْ؟
إنه الحبيب .. العزيز الحكيم .. التواب الرءوف إنه العظيم .. الذي خضعت لعظمته الجباه
إنه الملك .. الذي ذلت له الملوك
ألديك شك في ذلك ؟ يا من قطعت وصلك به
يا من أخطأت الطريق، لا يكن حظك كحظ الدواب
فالله تعالى يقول {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}، وهم الذين لم تُفد فيهم الآيات والنذر، ولا يفرق بين ما يضره وما ينفعه
ذكرنا بنداء عظيم لم يجعلنا نعتمد على أنفسنا الأمَّارة بالسوء، المصابة بطبع الفتور، بل من عظيم نعمه أنه ينادينا إليها في اليوم والليلة خمس مرات، نعم بل من عظيم منته أن ينادينا : حي على الصلاة .. لنترك كل شيء .. الصلاة خير من النو م .. فهو المحبوب في جنابها، ومن خلال أدائها نشهد أن الله واحد، الله أكبر .. أكبر من كل شئ، الله أكبر بالجنان وباللسان، فهو خالق كل شيء ، ومبدع كل شيء، ومصور كل شيء، وقاهر كل شيء. وله الكبرياء في السموات والأرض .. الإله الحق والملك الحق
سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره، وسعة رحمته وصبره، فاقتضت حكمته أن يخلق من يعصيه ويسعى في مساخطه، ومع ذلك يسوق له الطيبات ويرزقه ويعافيه ، الله أكبر! يا من لا تصلون .. كيف تعيشون؟ وكيف تطمئنون، بل كيف تنامون وتأكلون وتشربون؟
كيف ترفلون في نعم الله، وأنتم لا تصلون. ولولا رحمة ربي لحطمهم، لولا صبر ربي على الذين لا يصلون لساواهم بالتراب، لكن من صفاته الرحمة والإمهال والصبر
إنهم يُعاقبون ولا يشعرون، بل يشعرون، إنهم معاقبون بالهموم والغموم، إنهم معاقبون بظلمة الصدور، وقلق النفوس، إنهم مبتلون بالضيق والملل، ضيق الأرزاق، وضيق الأخلاق .. إنهم مصابون بالخوف، وبغض الخُلق ، وأذهانهم طائشة، وإن لم يُشعروهم بذلك.. كيف يطمئنون وهم منقطعون عن وصل القادر الذي إن شاء خسف بهم الأرض، ما الذي يجعلهم آمنون وهم منفصلون عن مقام العبودية لخالقهم ورازقهم؟ إن كانوا آمنون
إنا نصلي ولله الحمد والفضل سبحانه، ومع هذا فإنا نخشى ألا تُقبل صلاتنا، فعندما نسمع عن صلاة رسول الله وصحبه، وسلفنا الصالح نشفق على أنفسنا وصلاتنا، ولا نعلم كم قُبل منها فكم يروعنا ذلك الحديث الصحيح :" ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وأن المصلي قد يصلي الصلاة، فلا يكتب له منها إلا سدسها وإلا عشرها "
رواه أحمد، وأبو داود
جعلنا الله وإياكم من المحافظين على الصلاة في وقتها، وتقبّل منا أجمعين يا أكرم الأكرمين

Dec 10, 2007

أيام العشر .. أيام من ذهب


الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه الأتقياء الأوفياء النجباء، وبعد... فإن مواسم الخير والبركات، وأسواق الآخرة ورفع الدرجات لا تزال تترى وتتوالى على هذه الأمة المرحومة في الحياة وبعد الممات، فإنها لا تخرج من موسم إلا وتستقبل موسماً آخر، ولا تفرغ من عبادة إلا وتنتظرها أخرى . وهكذا ما ودّع المسلمون رمضان حتى نفحتهم ستة شوال، وما إن ينقضي ذو القعدة إلا ويُكرمون بعشرة ذي الحجة، العشرة التي أخبر الصادق المصدوق عن فضلها قائلاً: « (ما من أيامِ العملُ الصالحُ فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)، قالوا : يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء) ». فالعمل الصالح في عشرة ذي الحجة أحبُّ إلى الله عز وجل من العمل في سائر أيام السنة من غير استثناء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من الأنبياء والرسل والعلماء والصالحين، والأيام والشهور والأمكنة، إذ لا يساويها عملٌ ولا الجهاد في سبيل الله في غيرها، إلا رجلاً خرج مجاهداً بنفسه وماله ولم يعد بشيء من ذلك البتة. ومما يدل على فضلها تخصيص الله لها بالذكر، حيث قال عز وجل: { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [الحج:28]، والأيام المعلومات هي أيام العشر الأوَل من ذي الحجة، وأيام هذه العشر أفضل من لياليها عكس ليالي العشر الأواخر من رمضان فإنها أفضل من أيامها، ولهذا ينبغي أن يجتهد في نهار تلك الأيام أكثر من الاجتهاد في لياليها. فعلى المسلم أن يعمر هذه الأيام وتلك الليالي بالأعمال الصالحة والأذكار النافعة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليتسابق المفلحون، وليتبارى العاملون، وليجتهد المقصِّرون، وليجدّ الجادّون، وليشمِّر المشمِّرون، حيث تُضاعف فيها الحسنات، وتُرفع الدرجات، وتتنزل الرحمات، ويُتعرض فيها إلى النفحات، وتُجاب فيها الدعوات، وتُغتفر فيها الزلات، وتكفّر فيها السيئات، ويُحصل فيها من فات وما فات
ومن الأعمال المستحبة في هذه الأيام بجانب المحافظة والمواظبة على الصلوات المفروضة، على المرء أن يجتهد ويكثر من التقرب إلى الله بجميع فضائل الأعمال فإنها مضاعفة ومباركة في هذه الأيام، سيّما: - الصيام : فقد روى أصحاب السنن والمسانيد « عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام عاشوراء والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر ». وكان أكثر السلف يصومـون العشـر، منهم : عبد الله بن عمر والحسن البصري وابن سيرين وقتادة، ولهذا استحب صومها كثير من العلماء، ولا سيما يوم عرفة الذي يكفِّـر صيامه السنة الماضية والقادمة. و صيام يوم عرفة؛ لما رواه مسلم عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده ». - التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر يرفعه : « ما من أيامٍ أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ». - الإكثار من تلاوة القرآن . - المحافظة على السنن الرواتب. - الاجتهاد في لياليها بالصلاة والذكر، وكان سعيد بن جبير راوي الحديث السابق عن ابن عباس إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. - الصدقة وصلة الأرحام. - الجهاد والمرابطة في سبيل الله. نشر العلم الشرعي. - بيان فضل هذه الأيام وتعريف الناس بذلك. - تعجيل التوبة. - الإكثار من الاستغفار. - رد المظالم إلى أهلها. - حفظ الجوارح، سيما السمع والبصر واللسان. - الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، لك ولإخوانك المسلمين الأحياء منهم والميتين. فمن عجـز عن ذلك كله، فليكفّ أذاه عن الآخـرين؛ ففي ذلك أجر عظيم. وبأيّ عملٍ آخر يحبه الله ورسوله، فأعمال الخير لا تُحصى والسعيـد من ُوفـق لذلك، وكلٌ ميسّر لما خُلق له، والمحروم من حُرم هذه الأجور العظيمة والمضاعفات الكبيرة في هذه الأيام المعلومة التي نطق بفضلها القرآن ونادى بصيامها وإعمارها بالطاعات والقربات رسول الإسلام، وتسابق فيها السلف الصالح والخلف الفالح، فما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه، فإن فاتك الحج والاعتمار فلا يفوتنك الصوم والقيام وكثرة الذكر والاستغفار. وإن فاتك بعض هذه الأيام فعليك أن تستدرك ما بقيّ منها وأن تعوض ما سلف
عليك أخي الحبيب أن تحث أهل بيتك وأقاربك ومن يليك على ذلك، وأن تنبههم وتذكرهم وتشجعهم على تعمير هذه الأيام وإحياء هذه الليالي العظام بالصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وبالذكر، والصدقة، وبحفظ الجوارح، والإمساك عن المعاصي والآثام، فالداعي إلى الخير كفاعله، ورُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، ولا يكتمل إيمان المرء حتى يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، فالذكرى تنفع المؤمنين وتفيد المسلمين وتذكّر الغافلين، وتعين الذاكرين، والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم
أسأل الله أن ينفعنا بالذكرى، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير المرسلين وحبيب رب العالمين محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين

Dec 9, 2007

والله ذو فضل عظيم



كرم الله تعالى يتجاوز طمع الأنبياء فيه مع عظيم علمهم به، فهذا زكريا قد لهج بالدعاء ونادى وفي التنزيل: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) - الأنبياء، فاستجاب الله له وجاءته البشرى الملائكية: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) - آل عمران ، ومع هذا لم يملك عليه السلام أن قال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)! - مريم ، فلله ما أعظم إحسان ربنا وما أوسع كرمه ! أسأل الله أن يبلغني وإياكم برحمته وفضله فوق ما نرجو فيه ونؤمل


والمتأمل في الآيات التي جاء فيها خبر زكريا هذا يلمح أن من سبب عجبه -عليه السلام- سرعة استجابة الله له، فدعاء زكريا جاء متأخراً وتأمل قول الله تعالى في آل عمران: (هُنَالِكَ).. (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) - آل عمران ، ثم عقب بعدها بالفاء مع ذكر المحراب وكان قد دخل على مريم فيه، (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) - آل عمران . وهذه الدعوة المستجابة منه عليه السلام إنما كانت بعد أن رق عظمه وشاب رأسه وذهبت شبيبته، ولهذا ذكر في سورة مريم دعاءه بعد أن تملق مولاه بشيبته وضعفه، (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) - مريم ، وفي سورة الأنبياء ذُكر إصلاح الزوج بعد الدعوة وكل ذلك يشعر بأن هذه الدعوة إنما كانت بعد أن تقدمت سنه، فكأنه عجب من ربه، وسرعة إجابته، وكان عجبه عظيماً فجاء سؤاله: (أنى يكون لي غلام) مع أن المبشرين جمعُ من الملائكة وليس ملكاً واحداً
ولعله عليه السلام كان يأمل في إجابة الله له بطريق آخر، إما من زوجة أخرى أو سُرِّية ولم يكن يحسب أن تجيء الإجابة عجلة بكرامة لزوجه ومعجزة له إذ أولد الله له المرأة العاقر كما قال: (وكانت امرأتي عاقراً)، (وأصلحنا له زوجه)، وقد علم عقرها إما بوحي خاص، أو لأن الأنبياء مبرؤون من العيوب والآفات التي قد تكون محل نقيصة، بل هم مجبولون على أكمل الصفات الخلقية والخلقية. ولمّا كان الأنبياء هم أعلم الناس بالله، كانوا أبعد الناس عن الاعتداء في دعائه، ومن فضل الله أن هدى زكريا –عليه السلام- إلى هذه الدعوة المطلقة لم تقيد الإجابة بسبب أو تعلقه بطريق، فكان فضل الله عليه عظيماً


وقد كان فضل الله على أبيه إبراهيم أعظم، فقد قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) - الصافات، ويبدو أن دعوة إبراهيم هذه كانت أيام الشبيبة بعد حادثة الإلقاء في النار وتأمل سياق الخبر في الصافات، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) - الصافات، فكانت البشرى بالحليم إسماعيل بعد هذه الدعوة، غير أنها تحققت على كبر كما قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء - إبراهيم
ولم ينقل عنه عليه السلام عجب من مقدم إسماعيل فقد كان يترقب إجابة الدعوة ويتربص حلول البشرى
لكنه عجب من البشرى بإسحاق بعده كما في خبره مع نذر قوم لوط: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) - الحجر، وهذا عجب منه عليه السلام من سعة فضل الله ورحمته وإكرامه لهم بما تستبعده العقول وتحيله العادة، كما أنه لما قال: رب هب لي من الصالحين سد طمعه في ربه واحد، غير أن الله بإحسانه وفضله وكرمه منّ عليه بالثاني، وبنبوة الابنين فوق الصلاح ! فتأمل كيف هداه الله لأن يدعو فيقول: رب هب لي من الصالحين، فصلوات الله على زكريا لو أطلق الدعوة كما أطلقها إبراهيم فربما زاد الكريم غنمه، ووهبه من الصالحين من شاء بفضله


إنّ مما سبق يبين لنا بعض لطف الله بعباده، وشيء من عظيم فضله، وطرف من واسع رحمته، وأن من جملة رحمته رزق المرء الولد الصالح، وتأمل قوله سبحانه في أول مريم: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، فانظر كيف سمى استجابة دعائه ورزقه يحيى "رحمة" ، وهذا ما استنبطه الخليل عليه السلام بثاقب نظره فقال للمبشرين بالولد من الملائكة: (ومن يقنط من رحمة ربه إلاّ الضالون)
فاعلم أخي الكريم كرم الرب سبحانه، واعتقد عظيم أفضاله، وثق في سعة رحمته، ولا تقنط وتهيأ لذلك ببذل الأسباب ومن أجلها إصلاح النفس والمسارعة في الخيرات والدعاء

Dec 8, 2007

هل نحن كئيبون ؟



هل تشعر بهموم غامضة تدفعك إلى الاكتئاب والسلبية، وتحاول التخلص منها بشتى الوسائل فتنجح وتفشل؟ هذه الهموم التي تقتحم أحدنا بلا سبب واضح مباشر، هل هي موجات عاديّة مثل تحوّلات الطقس؟ أم أنها حالة لها أسبابها التي يمكن علاجها أو التخفيف منها على الأقل؟ هل يمكن لأحدنا أن يعالج نفسه بنفسه ؟ بالطبع فالإنسان طبيب نفسه، وهو الأعرف بآلامه ومشكلاته والأقدر على تشخيص الأسباب، ولكنه يمكن أيضاً أن يسلك في وسائل تزيد المشكلة، وقد تتحوّل الهموم العارضة إلى اكتئاب، ويتحوّل العلاج نفسه إلى مشكلة أكبر


هناك مصادر معروفة وتقليدية للهموم والاكتئاب مثل وفاة قريب أو صديق عزيز، أو إخفاق في الحياة والعمل، أو مرض، وبعضها وإن كان غامضاً غير معروف السبب فإنها أيضاً طبيعية، ولكن المشكلة عندما لا يستطيع الإنسان أن يخرج من هذه النوبات التقليدية للهموم، أو عندما يخرج منها بحالة أسوأ، وربما يكون الأخطر من ذلك عندما يكون يعاني من حالة اكتئاب مرضية وهو لا يشعر بأنه مريض، بل يظن أن هذه الأعراض هي حالة إيجابية، مثل الشعور بالسخط والتذمر والنقد الدائم وعدم القدرة على العمل الجماعي وتقبل الآخرين وآرائهم وأفكارهم، وهو يظن بذلك أنه أفضل من الناس أو في الوصف الشائع على سبيل المدح "لا يطيق العوج"، وفي الحقيقة أنه الأعوج وبحاجة إلى علاج. فقد يؤدي الاستمرار في هذه الحالة إلى الفشل في مواصلة الحياة بشكل طبيعي وتكوين علاقات في الأسرة والعمل والمجتمع وعجز عن رؤية الذات وفهمها، ونلاحظ من القصص والحالات التي نعرفها أن هؤلاء المساكين الذين يعيشون في الأرصفة، ويتسولون الناس يشعرون بأنهم أفضل المخلوقات، وقد يؤدي الاكتئاب إلى خلل صحي واضطرابات في النوم والطعام وشعور بالخوف والقلق وعدم ثقة بالنفس وشجار دائم مع الناس، أو حالة من السلبية واللامبالاة، وقد يدفع ذلك إلى الكحول والمخدرات والقمار والهروب المتواصل من الذات. ويفضل الناس عادة مواجهة الهموم بالهروب منها ونسيانها بالزيارات والتسلية والترفيه أو بالقراءة والمطالعة، أو بالصلاة والتلاوة والذكر، ولكن آخرين يفضلون معايشتها والاستغراق في عزلة صامتة للتأمل والتفكير العميق ثم يجدون مع التدريب والزمن متعة كبيرة في تحويل الهموم إلى مصدر للتعلم الذاتي، فالصمت والتأمل مورد هائل للمعرفة والعمل والعلاج ومصدر لطاقة عظيمة في التغيير والإصلاح، وقد يكون الانقباض سببه عضوي كيميائي مثل نقص بعض المواد الضرورية للجسم، وبالطبع فهناك هموم لا يحلها غير النقود، فإذا كنت مهموماً بإيجار البيت أو قسط المدرسة أو كمبيالة فلن يفيد علاج الهموم بكل الوسائل، ولكن في جميع الأحوال فإن نمط الحياة وثقافة السلوك الاجتماعي والأخلاقي يمكن أن ينظم الإنسان بها حياته وعلاقاته على النحو الذي يحقق الرضا والسعادة، فهي أولاً وآخراً مسألة أسلوب حياة وثقافة، وراحة الضمير مصدر للسعادة والرضا، والشعور بالذنب والتقصير والخطأ يثقل على الإنسان، ولا علاج إلاّ بإصلاح الخطأ


نحتاج أن نعرف أولاً : هل نحن كئيبون أم لا ؟! ولكن يجب عدم المبالغة في تقدير المشكلات، كما أن بعض حالات القلق والتوتر هي مصادر إيجابية للإبداع والتفوق، وبعامة فإن الملاحظة العامة للذات تقدم فرصة للشعور بالخطأ ومحاولة العلاج، ومن الأعراض التي يجب الانتباه إليها وملاحظتها: الشعور بالإحباط والملل، وعدم الاستمتاع بمباهج الحياة، واضطرابات في النوم، وقد تكون في صورة صعوبة في النوم أو كثرته، وفقدان الشهية للأكل أو الإفراط في الأكل بشراهة، والشعور بالتعب من أي مجهود، وصعوبة في التركيز والتذكر واتخاذ القرارات، ونظرة تشاؤمية للماضي والحاضر والمستقبل، والتفكير في إيذاء النفس أو المحيطين كالانتحار أو القتل، والشعور بالذنب الدائم أو العصبية الدائمة

ومن الحالات التي تدفع إلى الاكتئاب : الاستياء والسخط وعدم الرضا، والمقارنة الدائمة مع الآخرين والانشغال بهم أكثر من الذات، وفي التراث الشعبي: من راقب الناس مات هماً، ومواجهة الخطأ والتقصير بالمبالغة في لوم الذات وتأنيبها بدلاً من توجيهها إلى إعادة المحاولة والتصحيح، وعدم تقدير الذات والصورة الهزلية للنفس والمشاعر الدونية، وفقدان الأمل في حل مشكلة، أو الشعور بأن المشكلة قدر قاهر لا رادّ له، وعدم القدرة على التعايش مع المشكلة وتقبّلها


وقد يختلف الرجل عن المرأة في التعامل مع الهموم وملاحظتها، فالرجل عادة يبحث عمّن يلومه إذا ما شعر بالاكتئاب، ويتحول إلى عدائي منفعل، وقد ينصرف إلى الرياضة والترفيه، ويخجل من التعبير عن الإفصاح بشعوره الاكتئابي، ويعبّر عن خوفه من المشكلة بعدم الاعتراف بها، وأما المرأة فهي تلوم نفسها، وتحتفظ بمشاعرها وتدفنها، وتنصرف إلى العمل، ولكنها يمكن أن تنهار في أية لحظة. الشعور بأن الاكتئاب خطأ أو مرض يشكّل بداية للحل والمواجهة، وربما يكون متعذراً منع الهموم والكآبة ولكن المواجهة والعلاج أمر ممكن، ولكن الأسوأ من الاكتئاب هو ما يمكن أن يؤدي إليه من تدمير للذات والمجتمع والموارد