حينما اكتشف الرجل الأوروبي البخار و الكهرباء، و صنع الصلب و القطارات و الطائرات، و أضاء المدن فأحال ظلامها نهاراً، امتلأ شعوراً بالسعادة و العظمة. وحينما وضع قدمه في أفريقيا السوداء نظر إليها نظرة السيد إلى ملايين العبيد المتخلفين المتأخرين، المتبربرين المتوحشين. و شعر بأن عليه واجب الأخذ بيد هؤلاء الحيوانات إلى نور المعرفة و العلم والوصايا العشر. وبين زنوج عُراة حفاة وقف المبشر الأوروبي في ثياب نظيفة يقول لكل واحد: لا تسرق.. ونظر كل عريان بجواره يتساءل: نسرق ماذا؟ لا أحد يملك حتى خرقة على جسده، والطير يمرح على الشجر لمن يصطاده، و الأرض مجاناً لمن يزرعها، والفاكهة دانية لمن يقطفها.. نسرق ماذا و لماذا؟ أسهل على الجمل أن يدخل ثقب إبرة من أن يدخل الغني جنة الله. ولكن من هو الغني؟ الذي يملك.. الذي عنده نقود أكثر.. الذي عنده سندات وعقارات أكثر. و لكن ليس بيننا من يملك أكثر ولا من يملك أقل. ولا نعرف ملكية. ولا نعرف نقوداً. وليس بيننا من يملك سندات و عقارات. هذا عين التأخر والبربرية والوحشية! سوف يصك لكم الرجل الأوروبي النقود. سوف يجعل بعضكم فقراء و بعضكم أغنياء. سوف يجعل بعضكم يملك وبعضكم لا يملك. وهكذا تنشأ بينكم الأحقاد فتعرفون معنى الوصايا العشر. و لكن ما بال الرجل الأوروبي نفسه لا يعمل بالوصايا العشر؟ لماذا يسرق خيرات الغابة ويشحنها في البواخر المتراصة على الشاطئ إلى بلاده؟ لماذا يقتل العبيد بالسخرة في المناجم؟ لماذا يتزوج واحدة و يزني بألف. ولماذا يكذب على نفسه وعلينا وعلى الله؟! وظلت الحياة تسير في رتابة بين المتوحشين المتبربرين تحصدهم الأمراض، وتتحالف عليهم الملاريا والحمى الصفراء، والحيّات والأفاعي، ورصاص المستعمرين. وتولى الرجل الأوروبي مهمة قتل نفسه في حربين عالميتين. وتولى حصاد المدينة التي أقامها. كلما بنى هدم، وكلما أقام حطم. ولكن الأدوات في يديه ظلت تتقدم من طائرات إلى صواريخ، ومن كهرباء إلى ذرة
وها هو ذا اليوم قد امتلأ شعوراً بالثقة، وقد ازداد تأكيداً أنه أصبح السيد بالفعل. سيد من؟!! سيد على الطبيعة وعبد لنفسه! وهو يزداد عبودية لهذه النفس كل يوم. تستهويه البضائع الاستهلاكية في الفاترينات، وتستعبده الثلاجة والغسالة والعربة البويك، والريكوردر، والترانزيستور. وسيطرة البضائع الاستهلاكية والترف الشخصي تفرض نفسها على بلد رأسمالي كأمريكا كما تفرض نفسها على بلد اشتراكي كروسيا. و من أجل مزيد من الترف والبضائع الاستهلاكية لكل فرد، ومن أجل السيطرة والتحكم في الآخرين سوف تقوم حرب ثالثة، فلم تعد المسألة مسألة مذاهب. وإنما حقيقة المسألة أن الإنسان لم يتقدم وإنما تأخر. وهو كل يوم يتأخر. الأدوات في يديه هي التي تقدمت وتحول هو من صانعها إلى خادمها ثم إلى عبدها. لكن كل هذه البضائع الاستهلاكية ليست أكثر من لعب أطفال في فاترينة، وكل ما أحرزه الإنسان من تقدم هو تقدم شكلي. والإنسان في أثينا، منذ أكثر من ألفي سنة، أيام سقراط وأفلاطون وأرسطو كان أكثر تقدماً. وكان يعرف طريقه الصحيح إلى التقدم بالفعل. كان يبحث كيف يعرف نفسه، وكيف يتخلص من عبوديتها، وكيف يحقق الحرية، وكيف يحقق العدالة، وكيف يصل إلى معرفة الله. وكان كل واحد يناقش الآخر في حرية
أما اليوم فكل واحد يطلق على الآخر الرصاص. ولا أحد يفكر كيف يعرف نفسه، ولكن كيف يشبع نهم تلك النفس الجشعة بلا حدود. والنفس تدفن شيئاً فشيئاً تحت ركام البضائع الاستهلاكية، يخنقها طمعها اللانهائي. نحن نتأخر. الأدوات في أيدينا تنمو في القوة باطراد حسابي كما تنمو الأموال تلقائياً في البنوك. ولكن التقدم ليس أن تنمو الأدوات، وإنما أن ينمو الإنسان. ليس أن يسيطر الإنسان على الآخرين، وإنما أن يسيطر على نفسه، على غضبه. ليس أن يمتلك الإنسان القوة، بل أن يمتلك الرحمة. ليس أن يفرض الشرق مذهبه على الغرب، ولا أن يفرض الغرب مذهبه على الشرق، و إنما أن ترحب الصدور ليقول كل واحد كلمته. صحيح أننا الآن نركب صواريخ و نسير بسرعة، ولكن إلى وراء، وإلى تحت، وإلى خلف، وإلى دغل كثيف نعود فيه حيوانات أكثر افتراساً من كل الحيوانات.. حيوانات مخالبها ذرية و أنيابها نووية. مسوخ اختل فيها التوازن فأصبحت لها أبدان هائلة، وقلوب ضئيلة، و أرواح هزيلة. الجنس البشري الآن هو الديناصور الجديد الذي سوف ينقرض. واقرأوا التاريخ لتعرفوا كيف كان على الأرض منذ ملايين السنين حيوان هائل ضخم كالجبل، يحكم جميع الحيوانات، اسمه الديناصور، ثم انقرض وهلك. و السبب أنه كان قوياً جداُ و مغفلا
_______________________
من كتاب : "الشيطان يحكم" للدكتور مصطفى محمود
No comments:
Post a Comment